لا تستهينوا بالتعليم الإلكتروني

TR17 يناير 2021آخر تحديث :
لا تستهينوا بالتعليم الإلكتروني

تفيدة الجرباوي:

سارع انتشار وباء كورونا في دفع استخدام التعليم الإلكتروني عن بعد، ليصبح البديل الأنسب في ظل التباعد الاجتماعي الذي فرضه المرض كوسيلة للوقاية منه والحد من انتشاره. وعلى الرغم من عدم جاهزية النظام التعليمي في فلسطين لتبني هذا الأسلوب من التعليم، الا أن الجهات الرسمية والجامعات اضطرت لتبنيه حفاظاً على سير عملية التعليم.

 واجهت تجربة استخدام التعليم الإلكتروني في فلسطين تحديات عديدة يمكن اختصارها بأزمتين رئيستين، تسببت بتكوين نظرة سلبية عنه. ووصل الأمر لدرجة التهكم عليه من قبل الأهل والمربين والطلاب، وتمحورت تمنياتهم حول الأمل بقرب انتهاء الجائحة للعودة بسرعة للتعليم التقليدي. ويمكن اختصار هذه التحديات ببروز أزمتين رئيستين؛ الأولى تتمثل بضعف المعرفة التقنية ووسائل استخدامها، الأمر الذي تسبب في إرباك العملية التعليمية الالكترونية وأدى إلى مخرجات ونتائج غير مرضية. في هذا السياق، ما زالت البنية التحتية اللازمة للتعليم الإلكتروني ضعيفة، ويشمل ذلك عدم كفاية أجهزة الحاسوب، وضعف التيار الكهربائي وقوة الإنترنت، وكثرة انقطاعهما، وضعف تناغمها مع البرامج والمنصات التعليمية اللازمة لضمان جودة عملية التعليم الإلكتروني. ونجم عن عدم توفر النظم الادارية الفاعلة لهذا النوع من التعليم وشح الكوادر التعليمية المدربة على استخدام آليات تصميم الدروس والمتابعة والتقييم الخاصة به، تدني مستوى النتائج المرجوة منه. وعلى صعيد الأهالي، لم تقتصر معاناتهم على عدم توفر حواسيب ومساحة خاصة وهادئة في البيت لكل فرد في العائلة ليتفاعل مع التعليم الالكتروني عن بعد، بل وقعت عليهم أعباء المشاركة الرئيسية في تدريس أبنائهم، وهي أعباء كانت ثقيلة في ظلّ الحجر الصحي والإغلاقات المتكررة، ناهيك عن القلق والتوتر العام جرّاء المخاوف من الإصابة بالفيروس. ويجدر الانتباه إلى ما أدى إليه كل ذلك من إضافة أعباء على النساء خاصة، إذ وقع عليهن كاهل القيام بأعمال متعددة في بيئة بالغة الضغوط. تراوحت هذه الضغوط ما بين التكيف لأداء وظائف العمل من البيت، والعناية بأفراد الأسرة والبيت، والقيام بدور رئيسي في متابعة عملية تدريس الأولاد عن بعد. كما يجب عدم إغفال أثر عدم توفر التمويل لدى الحكومة، وما نتج عنه من عدم تلقي المعلمين ومعظم الموظفين رواتبهم كاملة، من زيادة حجم الضغوط المادية والنفسية الواقعة عليهم وعلى مجمل الأهالي والطلبة، ما أحال مسألة التعليم الإلكتروني لتصبح أولوية ثانوية، عوضاً من أن تكون أولوية رئيسية.

 أما الأزمة الثانية فتتلخص بضعف المنظومة القيمية-الأخلاقية الخاصة بالتعليم الإلكتروني، لكونه يتمّ عن بعد، وتتمحور حول الأمانة العلمية. لقد تبين للمعلمين أن بعض الطلبة لم يحضروا الحصص بأنفسهم، بل فتحوا الحواسيب وتركوها، أو قام أصدقاؤهم أو أحد أقربائهم بالحضور بدلاً عنهم وبطلب منهم، بعد أن زودوهم بحسابهم الخاص للدخول الى منصة التعليم. ولم يتوقف الأمر على ذلك، بل قدّم بعض الأهالي والأصدقاء الامتحانات عوضاً عن الطلبة، وقاموا بأداء الواجبات التي يطلبها المعلمون، كالأبحاث والعروض التقديمية. وذهب بعض الطلبة إلى دفع مقابل مادي لأشخاص أو لمكاتب لتحضير واجباتهم. باختصار، لم يبد العديد من الطلبة الجدية الكافية للاستفادة من المعارف ومهارات البحث والاستقصاء والابتكار التي ييسرها التعليم الالكتروني، بل تركز اهتمامهم على تحصيل العلامات. ومما زاد الطين بلّة أن ضغوط العمل اضطرّت بعض المعلمين، رغم إبداء استيائهم، للتساهل في التعامل مع هذه الظواهر. لقد أدت كل هذه الحالات، والتي تعكس هشاشة المنظومة القيمية-الأخلاقية للمجتمع، إلى وسم التعليم الإلكتروني، مع أنه الكاشف وليس المنشئ لها، بوسمة بالغة السلبية. وعوضاً عن التركيز على ما كشفه هذا التعليم من خلل كان موجوداً ومنتشراً، بأشكال أخرى، في التعليم الوجاهي التقليدي، وتوجيه الجهد لإيجاد السبل لمعالجته، كونه الأساس لتكوين الشخصية القويمة التي تطمح العملية التربوية التعليمية لإنتاجها، انصبّ جام الغضب على الوسيلة التي اكتشفت الخلل، فأصبحت هي المدانة، وهي التي يجب تغييرها.

مع أن الكثير من دول العالم لاتزال تمرّ حالياً بمصاعب وتحديات متفاوتة في تطبيقها للتعليم الإلكتروني، إلا أنه من الواضح أن العالم يتجه بقوة نحو زيادة الاعتماد على هذا النوع من التعليم، بشكل مدمج أو بشكل كلي، في المستقبل. وهذا يعني أن لا رجعة في عدد متزايد من الدول إلى التعليم بصيغته التقليدية. فالتجربة التي مرّ بها التعليم في ظل جائحة كورونا ستشكل مفصلاً تاريخياً في العملية التربوية-التعليمية. وكما ذكرت في مقالة سابقة، فإن التعليم الإلكتروني سيشكل أساس ثورة التعليم التي نشاهد حالياً بداياتها. والأدلة على ذلك تتمحور فيما نراه الآن من أعمال تطويرية هائلة في تقنياته، وزيادة متسارعة في أعداد مستخدميه، واهتمام مطّرد من قبل الخبراء والأكاديميين المختصين الذين يسخرون معارفهم وأوقاتهم لمعالجة تحدياته، وابتكار الحلول الناجعة لتسريع عملية التحول لتبني استخدامه بشكل أوسع في المستقبل. وتضم قائمة الدول الأكثر تجربة وإنجازاً في هذا المجال كل من الولايات المتحدة الأميركية واستونيا والهند والصين وكوريا الجنوبية وماليزيا واستراليا. وقد أطلقت اليونسكو، هذا العام، مبادرة عالمية ضمت العديد من المؤسسات التربوية والإعلامية والتمويلية في العالم من أجل الارتقاء بمستقبل التعليم، وفي معرض جهودها لمواجهة ضعف البنية التحتية، وضعت اليونسكو على سلم أولوياتها أهداف توفُّر حاسوب لكل طالب، وتوسيع شبكات الكهرباء والإنترنت في الدول النامية. وقد شجع هذا الاهتمام العديد من الشباب المبدعين والشركات الناشئة على تطوير الكثير من التقنيات والبرامج والمنصات التعليمية التي عادت أيضاً بالنفع المادي عليهم. وبالإضافة لكونها صديقة للبيئة، فتحت تقنيات التعليم الإلكتروني آفاقاً ريادية جديدة شملت كل مكونات النمو الاقتصادي بما يشمل التجارة والصناعة والمعاملات البنكية والطب والزراعة، وأسهمت في ازدهار الشركات الكبرى مثل جوجل ومايكروسوفت وأمازون.

 لقد أصبح التعليم الإلكتروني واقعاً لا مناص من التعامل معه حالياً وفي المستقبل. فهو سيكون الأساس الذي سيُبنى عليه التعليم المستقبلي، وسيصبح المدخل لعالم الغد.

يجدر الأخذ بالاعتبار أنه وبرغم الحملة النقدية الشديدة لتجربة التعليم الإلكتروني في فلسطين، وهي محقّة في بعض جوانبها، ولكن ليس في حدّتها، فإنها لم تكن سلبية بالكامل، بل كان فيها العديد من الإيجابيات. فقد أتاحت، مع أنها جاءت بشكل مفاجئ ودون استعدادات مسبقة، الفرصة للمعلمين والطلبة لتخطي حاجز الخوف في التعرف على أساسيات التعليم الالكتروني واستخدام تقنياته. كما مكنت المبدعين من مدراء المدارس والمعلمين من الانخراط في تصميم حلول لتحديات التعليم الإلكتروني، فطوروا أساليب التعلم الذاتي التي تركز على استخدام التكنولوجيا والبيئة في الاستقصاء والتحليل والاستنتاج وإجراء البحوث، وطوعوا محتوى الكتب المدرسية لتصبح أكثر ارتباطاً بالواقع الذي يعيشه الطلبة، واستخدموا المنحى الشمولي التكاملي في تصميم التدريس لتحفيز طلبتهم على التفاعل مع عملية التعلم والاستمتاع بها. لقد كان هناك أمثلة كثيرة مضيئة في هذا التعليم، وهي التي يجب أن تُشجّع ويُبنى عليها في المستقبل.

 إن الرد على الاعتراف بأزمتَي ضعف التقانة والمنظومة القيمية-الاخلاقية التي كشف عنهما التعليم الإلكتروني في فلسطين يجب أن لا يكون دافعاً متسرعاً للمطالبة بعودة للتعليم الوجاهي التقليدي. فحتى عند انتهاء الجائحة والعودة إلى المدارس، فإن الاعتماد على التعليم الإلكتروني سيستمر وسيتصاعد، كما في أي مكان آخر في العالم. لذلك، علينا التمحيص في تجربتنا والتجارب العالمية، والتعلم من أخطائنا، وضم جهودنا مع الجهود الجارية في العالم، من أجل تذليل العقبات وتوفير المستلزمات الضرورية للتوسع في التعليم الإلكتروني في المستقبل. هذه الأمور يجب أن تتم في ظلّ الانهماك في عملية استشراف لمستقبل التعليم في فلسطين، بما يشمل نوع التعليم الذي نريد وأهدافه ومرتكزاته، وأدوار المدرسة والمعلمين وأولياء الأمور والمجتمع والحكومة والقطاع الخاص، وذلك من أجل الوصول إلى رؤية مشتركة حول الماهية والآلية المثلى للتعليم في فلسطين، والتي قد يصبح التعليم الإلكتروني جزءا أساسيا ومهما في بنيتها.

لن يعود التعليم في العالم بعد انتهاء الجائحة إلى سابق عهده. فبعد تخطي العديد من تحديات التعليم عن بعد، وبناء على التجارب العالمية الناجحة، وفي ظل تكاتف الجهود التي يبذلها الخبراء في كل أنحاء العالم لتجاوز العقبات الباقية، أصبح التعليم الالكتروني خياراً هاماً في تنشئة أجيال المستقبل وركيزة أساسية في ثورة التعليم القادمة. وعلينا واجب أن لا نأنف من المشاركة، وأن لا نتخلّف عن الركب. فالتعليم هو ركيزة التقدم، والتخلف فيه يعني التخلف في تحقيق التقدم.

 لكل ذلك، الرجاء أن لا تستهينوا بالتعليم الإلكتروني.

الاخبار العاجلة
مركز الأرض للأبحاث والدراسات والسياسات يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق