طلال أبوركبة
ملاحظة : هذه الورقة قدمت لمركز دراسات المجتمع المدني “سفيتس” في غزة- نوفمبر 2019
أعلنت جميع الأطراف الفلسطينية باختلاف ألوانها الموافقة على الذهاب إلى انتخابات تشريعية فلسطينية، والاستجابة إلى الدعوة التي أطلقها الرئيس الفلسطيني محمود عباس من على منصة الأمم المتحدة في السادس والعشرين من أيلول الماضي، وذلك عقب عدة لقاءات وجولات مكوكية قامت بها لجنة الانتخابات المركزية برئاسة حنا ناصر خلال الفترة الماضية.
إلا أن الدعوة للانتخابات، والاستجابة لها لاتزال محل شك وريبة فلسطينية حول مدى النجاح الفلسطيني في تجاوز مأزق الانقسام الذي تكرس على مدار ما يقارب ثلاثة عشر عاماً، تكرست خلالها قيم انقسامية، وهيمنت مجموعة من الصور النمطية والذهنية السلبية عن الآخر الفلسطيني يعتليها التشكيك والتخوين والرفض، إضافة إلى التوقعات المسبقة بأن طرفي الانقسام سيعمل كل منهما على وضع العصى في الدواليب لإفشال أي مخرج من الأزمة القاسية التي تعصف بالمجتمع الفلسطيني نتيجة لهذا الانقسام.
من هنا كان لابد طرح التساؤل الجوهري، حول إذا ما كانت هذه الانتخابات ستفضي إلى توحيد المؤسسة الفلسطينية والتي عانت من الانقسام والتشرذم على مدار أكثر من اثنا عشر عاماً فشلت خلالها كل الجهود لتوحيدها. أم أنها ستعمق من مأزق الحالة السياسة الفلسطينية، خصوصاً إذا غابت الإرادة الصادقة لاحترام نتائجها إن حدثت، أم أن المسألة برمتها هي مجرد مناورة سياسية رفعت خلالها ورقة الانتخابات، لإحراج الأطراف فقط.
يجمع الكثيرون من الكتاب والنخب السياسية على أن هذه الدعوة والاستجابة لم تخرج إلا من باب المناورة السياسية بين كافة الأطراف في الحالة الفلسطينية، وتوظيفها كمركب انقاذ للهروب من مأزقها السياسي الذي تمر به. وفي نهاية المطاف ستكون هناك مماطلة وجملة من الذرائع التي ستجعل من التوجه للانتخابات التشريعية وتعذر إجرائها إضافة جديدة من إضافات المواقف الانقسامية والتي ليس لها نهاية في الحالة الفلسطينية.
هذه الورقة هي محاولة لقراءة الدعوة للانتخابات والاستجابة لها كإطار للمخرج أو لتعميق المأزق أو المناورة السياسية، وهي لا تتعاطي مع العملية الانتخابية من الناحية الفنية الإجرائية على أهميتها بقدر ما تتناول الأبعاد السياسية ورائها من زاوية، ومن أخرى تحاول هذه الورقة التعامل مع الانتخابات كأداة نضالية فلسطينية على مستويين الأول داخلي يرتبط بمسار التحول الديمقراطي الفلسطيني الداخلي واعتبار الاحتكام لشرعية الصندوق هو الحل السحري للخروج من نفق الانقسام المظلم في الحالة الفلسطينية، والثاني على صعيد الاشتباك مع الاحتلال في إطار معركة النضال الوطني الفلسطيني لانتزاع الحقوق الفلسطينية من خلال إعادة رسم صورة المؤسسات الفلسطينية وشرعيتها الواحدة في مواجهة الرواية الإسرائيلية التي تعمل على تعزيز وتكريس التشرذم المؤسساتي الفلسطيني، وادامة حالة التباين الفلسطيني الداخلي.
لماذا الانتخابات:
تقوم الديمقراطية كنظام للحكم على مبادئ عامة أبرزها حرية الرأي والتعبير، والتداول السلمي للسلطة بين أحزاب وقوى ونخب سياسية متفقة حول ثوابت الدولة، ومختلفة طبيعياً حول التفاصيل، من خلال انتخابات دورية، حــــرة، عادلة، نزيهة، وشفافة، في دولة المؤسسات والقانون.
وعادةً يتم الاحتكام للانتخابات في الأنظمة الديمقراطية لتجديد شرعية مؤسساتها، أو لمواجهة أزمة تواجه النظام السياسي فيها، بحيث يتم الاحتكام للمواطن بصفته مصدر السلطات الأصيل في الدولة، ويتم بناء عليه احترام وقبول نتائج الصندوق.
أي أن الانتخابات بحد ذاتها ليست غاية، بل وسيلة لتحقيق إرادة الشعب في تجديد شرعيات مؤسساته عبر اختيار ممثليه في المجلس التشريعي أو الرئاسة أو المجالس المحلية.. إلخ. وهي أداة من أدوات تحقيق الديمقراطية، وهي بدايةٌ للطريق وليس نهايته، وهي بداية كل البدايات، فالانتخابات في الفهم الديمقراطي لا تصنع ثقافة، بل هي نتاج ثقافة ووعي[1].
ففي الحالة الفلسطينية، أشار القانون الأساسي الفلسطيني المعدل للعام 2003، في المادة الثانية “أن الشعب مصدر السلطات ويمارسها عن طريق السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على أساس مبدأ الفصل بين السلطات”
وقد أدى الفشل المتتالي لاتفاقيات المصالحة والتي جابت معظم العواصم من موسكو إلى القاهرة مروراً بالدوحة، ومن ثم إعلان بيروت، وصولاً إلى الشاطئ؛ إلى تنامي الشعور بفقدان الثقة في نوايا طرفي الانقسام في الساحة الفلسطينية لإنهاء هذه الحقبة المريرة من تاريخ القضية الفلسطينية، مما جعل التفكير في اللجوء للانتخابات كمخرج من الأزمة هو بداية الحل، خصوصاً وأن كلا الطرفين يقدم نفسه كممثل شرعي للشعب الفلسطيني.
هل الانتخابات مخرجاً؟
يشير “ماكس فيبر” عالم الاجتماع الفرنسي إلى أن تعاطي المجتمعات مع الأزمات ينحصر بين ثلاثة خيارات، الأول خيار العقلنة، وهو الخيار الذي يوفر ملاذاً آمناً لانقسامات المجتمعات ويتولد هذا الخيار من خلال احترام أسس العقد الاجتماعي المُنشئ لهذه التجمعات، أما الثاني فهو خيار الفوضى والتشرذم والذي يتولد من خلال محاولة كل جماعة داخل المجتمع فرض رأيها ورفض الرأي الآخر، وغياب أسس الشراكة، وتلاشي آليات التوافق، أما الثالث فهو خيار إعادة إنتاج ذات النظام وبذات الأدوات، أي المحافظة على الواقع الحالي كما هو.
وانطلاقاً من هذه الرؤية فالأصل أن تشكل الانتخابات في أي مجتمع مخرجاً لأزمات نظامه السياسي وتناحر قواه ونخبه السياسية على قاعدة الاحتكام للصندوق بدلاً من الاحتكام للسلاح أو العنف. ولكن هذا كله مناطٌ أصلاً بإجماع سياسي وتأصيل قانوني، وعقد اجتماعي عنوانه الشراكة الوطنية والمصلحة العامة بحيث يقبل من خلاله كافة الفرقاء في الحالة السياسية، الاحتكام لصندوق الاقتراع واحترام نتائجه على غرار ما يحدث في مختلف بقاع الدنيا.
وتبدو المسألة أكثر تعقيداً في المشهد الفلسطيني، والذي يعاني من غياب الاتفاق السياسي رغم إعلان حالة الترحيب والاستعداد من قبل كل الأطراف للدعوة للعملية الانتخابية. وهو ما يجعل طرح التساؤل حول ضمانة احترام نتائج الانتخابات من كل الأطراف محل شك، خصوصاً وأن استطلاعات الرأي المختلفة تعطي للفصيلين الرئيسيين نسب متقاربة لحدٍ ما في حال أُجريت الانتخابات؛ بما يعني أن كلاهما لا يستطيع بمفرده أن يهيمن على النظام السياسي الفلسطيني أو أن يفرض رؤيته، وهو ما قد يفضي إلى صراع، أو انقسام أشدَ قسوةً مما هو عليه المشهد الآن، وهو ما يعني في نهاية المطاف إدامة حالة الانقسام وتأبيده في الحالة الفلسطينية. فالانتخابات وحدها لا تستطيع تغيير نظام سياسي فاشل وعاجز، وليست هي الحل السحري أو وصفة مضمونة، بل لا تخلو في هذه الحالة من مخاطرة كبيرة إن لم تكن في سياق استراتيجية وطنية، بما يعني أن الانتخابات بدلاً من أن تشكل مخرجاً للأزمة، قد تكون سبباً في تعميقها.
أما في الحالة الثانية، أي حصول أحد الأطراف على أغلبية في الانتخابات التشريعية؛ فما هي الضمانة لقبول المهزوم بنتائج الانتخابات، والالتزام بها، خصوصاً وأن هناك سابقة لدينا في أعقاب انتخابات 2006 التشريعية السابقة؛ مع الأخذ بالاعتبار أيضاً صعوبة تولي حركة حماس مقاليد الحكم في الضفة الغربية في حال فوزها في ظل إعادة سيطرة الاحتلال الإسرائيلي لمعظم أراضي الضفة الغربية.
قدرة الانتخابات على إحداث تحول ديمقراطي في الحالة الفلسطينية:
تشير نظريات التحول الديمقراطي التي تقوم على الاتفاق بين المعارضة والنظام، وهي في الحالة الفلسطينية (طرفي الانقسام)، إلى أن اللجوء لإجراء المفاوضات وعقد الاتفاقيات، بعد أن يصل الانقسام إلى طريقمسدود، قد يؤدي إلي فتح الباب للانتخابات الحرة والتنافسية.
وهذه النظرية ترى أن دمقرطة الأنظمة غير الديمقراطية تتم من خلال الجمع بين تآكل علاقات القوة والهيمنة القديمة، وبناء علاقات قوة جديدة تقدم بديلاً ديمقراطياً ذو مصداقية، الامر الذي يتطلب من المعارضة الحفاظ على بقائها ووجودها، مقاومة الاندماج في النظام، الاستقلال الذاتي ضد النظام، رفع تكاليف الحكم غير الديمقراطي خلق بديل ديمقراطي موثوق به. كما ان تغير علاقات الهيمنة يعتمد على المعارضة، ليس فقط لتقدم نفسها على انها ديمقراطية، بل أيضاً الاستعداد للمنافسة الديمقراطية، وجاهزة للحكم الديمقراطي، وبناء المعارضة الموالية[2].
طبقا لهذه النظرية فإن الانتخابات الفلسطينية حال إجرائها وأيا كانت نتائجها، فإنها على الأغلب ستعيد توزيع أوزان كافة القوى والفصائل السياسية الفلسطينية طبقا لنتائج الصندوق، وهو ما يعني بكل الأحوال، انهاء مرحلة الادعاء الحصري لتمثيل الشعب الفلسطيني، من قبل هذا الفصيل أو ذاك، وهذا سيجعل الحاجة إلي إعادة الاعتبار لضرورة إنشاء عقد اجتماعيا جديداً يقوم على التوافق والشراكة الوطنية، في انتهاج واتباع الخيارات والوسائل التي يمكن لها أن تحقق التطلعات الفلسطينية، وبهذا المعنى فإن الانتخابات في هذه الحالة، هي بكل المقاييس خطوة في اتجاه تحقيق التحول الديمقراطي المشوذ في الحالة الفلسطينية، وبذلك تكون الانتخابات هي أداة نضالية وظفها الشعب الفلسطيني وكافة قواه لتجاوز كافة محاولات الشرذمة والتجزئة التي تم بنائها على شرعيات وحدانية التمثيل والبرامج والرؤى.
وهذا يحتاج الى مجتمع مدني قوي قادر على تحقيق الدمج الديمقراطي عبر توليد بدائل سياسية، ومراقبة الحكومة، والمساعدة في تعزيز وتعميق الديمقراطية في جميع مراحل ارسائها، ومجتمع سياسي قوي يتقبل وجود المعارضة، ولا ينادي بتسريحها بعد ان ادت دورها التاريخي، ولهذا لا يجب خلق تناقضات خاطئة بين المجتمع المدني والسياسي، فوجود الاثنين قويين أمر لا غنى عنه لتحقيق الديمقراطية.
إسرائيل والانتخابات:
أعلنت السلطة الفلسطينية قبل أيام عن توجيه رسالة رسمية إلي دولة الاحتلال من أجل تمكينها من إجراء الانتخابات التشريعية في القدس، كما جاء في تصريحات صحفية لوزير الشئون المدنية حسين الشيخ، وفي تصريحات السيد الرئيس في اجتماع المجلس المركزي قبل أيام، والتي أكد فيها أن المرسوم الرئاسي الخاص بإجراء الانتخابات التشريعية مرتبط بالحصول على الموافقة الإسرائيلية، وأنه لا انتخابات دون القدس مهما كانت التداعيات.
إسرائيلياً هناك صمت رسمي حول التعليق على موضوع الانتخابات الفلسطينية، ولفهم هذا الصمت فإنه لابد من التأكيد على الحقائق الإسرائيلية التالية:
أولاً: اعتبرت إسرائيل منذ البداية الانقسام الفلسطيني، بمثابة إنجاز إسرائيلي يضاهي في قيمته إنجاز قيام الدولة في أربعينيات القرن الماضي، بحسب التصريح الشهير لأحد أبرز قادتها “شمعون بيريز” آئنذاك، وكشفت الوثائق اللاحقة والدراسات العديدة أن الانقسام السياسي الفلسطيني كان جزءاً من خطة شارون أحادية الجانب خلال الانسحاب من قطاع غــــزة، والتي أشار إليها في خطابه داخل الكنيست الإسرائيلي حول الانسحاب من قطاع غزة آئنذاك.
ثانياً: جاءت المواقف الإسرائيلية السابقة من تمكين أجراء الانتخابات الفلسطينية السابقة في سياقات مختلفة حيث أنه وفي المرة الأولي أي في انتخابات 1996، جاءت الموافقة الإسرائيلية في إطار تمرير اتفاق أوسلو؛ في حين كانت الموافقة الإسرائيلية على انتخابات 2006 ضمن رؤية شارون للإنقسام الفلسطيني والتي تحققت بعد أقل من عام.
وهنا يبدو المشهد ضبابياً، خاصة إن تأملنا الموقف الإسرائيلي الصامت حتى اللحظة من الدعوة إلى إجراء الانتخابات الفلسطينية، وفي أي إطار يمكن أن يسمح لها، هل في إطار إدامة حالة الانقسام وتحويله إلى انفصال حقيقي ما بين الضفة والقطاع؟ أم في إطار التعطيل وعدم السماح بإجراء الانتخابات لتجديد الشرعيات الفلسطينية؟ ليس عبر تعطيل إجرائها في القدس وحدها والتي حصل عليها مؤخراً عقب الاعتراف الأمريكي بها عاصمة موحدة لدولة إسرائيل، بل ربما يمتد لتعطيل إجرائها في المنطقة C، من الضفة الغربية والتي يرغب في ضمها بالكامل لدولة إسرائيل، وبالتالي يكون معطلاً للانتخابات في حالة كانت ستعتبر مخرجاً للحالة الفلسطينية من مأزقها، فالاحتلال الإسرائيلي لن يسمح بشكلٍ أو بآخر لإجراء الانتخابات إلا وفق السياق الذي يخدم ويحقق تطلعاته وأهدافه.
الاحتمال الآخر هو تسهيل إجرائها في سياق الضغط الدولي، وفي إطار تحسين صورتها الدولية، خصوصاً عقب قرار الجنائية الدولية فتح تحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، إلا أن هذه الموافقة الإسرائيلية قد تحمل في طياتها تكريس أمر واقع داخل المدينة المقدسة، فربما تأتي الموافقة الإسرائيلية ضمن عملية إزاحة جغرافية لصناديق الاقتراع من داخل حدود المدينة إلي خارجها أي أطراف المدينة، والتي لا تقع ضمن المخطط الإسرائيلي لتهويد المدينة أي إلي ما بعد الجدار الفاصل، وهو ما يعني بأن جغرافيا القدس الشرقية الخاصة بالفلسطينيين هي هذه الاحياء فقط، أو ربما تأتي الموافقة مشروطة باصفرار إسرائيلي على أن تكون مراكز الاقتراع في المدينة هي مكاتب البريد الإسرائيلية، ولا تسمح بأي تواجد فلسطيني رسمي داخلها في إشارة لعدم إعطاء الفلسطينيين أي حق سياسي في المدينة، وهذا بحد ذاته خطر يجب الانتباه له.
ستأتي الموافقة الإسرائيلية في كل الأحوال ضمن رؤية أو سياق يخدم السياسات والتطلعات الإسرائيلية. أي أن السياق الذي ستتعامل به إسرائيل سيكون وفق خيارين لها، الأول: إما تكون هذه الانتخابات في إطار مزيد من الإنقسام والتشظي للحالة الفلسطينية، والثاني: في إطار الذهاب إلى تسوية سياسية بمقاسٍ إسرائيلي، ونفي وازاحة للوجود السياسي والمعنوي الفلسطيني في المدينة المقدسة.
بكل الأحوال وبغض النظر عن الموقف الإسرائيلي، فإن طريقة التعامل الفلسطيني مع الانتخابات التشريعية، يمكن أن تتحول إلي أداة نضالية مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك باعتبار أن إجراء الانتخابات بالقدس هو حق فلسطيني معترف به دولياً وتدعمه جملة من المواقف والقرارات الدولية، أبرزها الاعتراف الدولي من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة بفلسطين دولة مراقب في الأمم المتحدة عام 2012، وقرار مجلس الامن (242)، إضافة للسوابق الانتخابية للانتخابات التشريعية في القدس 1996-2006، طبقا لاتفاقية أوسلو، هذا بخلاف قرار اليونيسكو الخاص بالقدس.
يمثل هذا الموقف الفلسطيني تحديا صارخاً لسياسات الاحتلال الخاصة بتهويد المدينة المقدسة، ورداً فعليا على القرار الأمريكي الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لدولة الاحتلال، إضافة إلي أنه كاشف للمواقف الدولية والإقليمية المختلفة حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
هل الانتخابات مناورة:
لم يخلُ أيُّ تفاهمٍ فلسطينيٍّ خلال جولات المصالحة السابقة من التأكيد على أن الانتخابات ستكون في نهاية المطاف تتويجاً لإصلاح النظام السياسي وإعادة توحيد المؤسسة الفلسطينية، ولذلك فإن الدعوة للانتخابات من قبل الرئيس والاستجابة لها من قبل الفصائل ليست بجديدة كما أنها ليست اختراق أو اجتراح إبداعي للخروج من المأزق، بقدر ما هي مناورة سياسية تستخدم من قبل كافة الأطراف للخروج من مأزقها أمام الجماهير.
ويتجلى مأزق السلطة في فشل مشروعها السياسي، من خلال توقف المفاوضات، والانحياز الأمريكي عقب طرح صفقة القرن التي لا تستجيب للحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني، وما تعرضت له من ابتزاز مالي أمريكي وإسرائيلي على حد السواء. وإعلاناتها المتكررة عن وقف التنسيق الأمني، وتعليق كافة الاتفاقيات مع إسرائيل، والتي لم تنفذ حتى اللحظة مما جعلها في موقف محرج أمام الجمهور الفلسطيني.
بينما تواجه حماس مأزق وصول مشروعها المقاوم الذي راهنت عليه مع فصائل المقاومة بكل أساليبه وخصوصاً مسيرات العودة لكسر الحصار وتحسين الأوضاع المعيشية للسكان، قد وصل إلى طريقٍ مسدود. كما أن تفاهمات التهدئة لم تحقق ما كانت تأمله في تحسين الأوضاع في قطاع غـــــزة.
أما مأزق بقية الفصائل فيتجسد في خشيتها من انتخابات تتجاوز فيها نسبة الحسم 2%، وانعدام قدرتها على الوصول إلى المجلس التشريعي، خصوصاً في ضوء حدة الاستقطاب الثنائي بين حماس وفتح، وهو ما يعني موتها سياسياً، خصوصاً عقب فشلها على مدار السنوات الماضية في تشكيل تيار ثالث قادر على كبح جماح الطرفين الرئيسيين من ناحية، أو تبني مطالب المواطنين من ناحية أخرى، وهذه الأحزاب تفضل نظام المحاصصة على الانتخابات حتى لا تكشف الانتخابات أوزانهم الحقيقية في الشارع.
في هذا الإطار تبدو الدعوة للانتخابات والاستجابة لها كمركب إنقاذ أو ملهاة لتوجيه الأنظار من مأزق الأحزاب والنخب الحاكمة إلى قضية تجد قبولاً واهتماماً عند الشعب الفلسطيني[3].
التجربة التونسية في الأذهان:
أنشأ الانقسام السياسي منذ حصوله وعلى مدار السنوات الممتدة ، طبقةً سياسيةً في كلا الاتجاهين مستفيدة ومن مصلحتها بقاء الوضع على ما هو عليه، هذه الطبقة ستكون إحدى العوائق الرئيسية أمام إجراء الانتخابات لأن أي تغيير قد يحصل سيشكل بأي حال من الأحوال ضرراً بالغاً بمصالحها، خصوصاً عقب التجربة التونسية الأخيرة والتي عاقب فيها الشعب التونسي كل نخبته السياسية على مدار السنوات السابقة وأخرجها من سباق الانتخابات سواء كأحزاب أو مؤسسات دولة، وهو ما تخشى الطبقة السياسية في الحالة الفلسطينية من حدوثه ربما إن حدثت الانتخابات، لذلك فإنها ستسعى جاهدة لتعطيل أي انتخابات تشريعية أو رئاسية أو مجلس وطني بالتتابع كانت أم بالتزامن.
- سيناريو عدم إجراء الانتخابات:
يبدو أن عدم إجراء الانتخابات هو الاحتمال الأقرب للتحقق، وذلك لأن الدعوة في حيثياتها، والاستجابة لها، كانت من الأساس في إطار المناورة السياسية، التي أراد من خلالها جميع الأطراف جعل ورقة الانتخابات مركب إنقاذٍ لمأزق النخب السياسية الحاكمة في الحالة الفلسطينية، وسوف يستحضر كلُّ طرفٍ من الأطراف ما يمتلك من الذرائع لمنع إجراء الانتخابات، وخصوصاً الذرائع الفنية والإجرائية، والتي لن يكون أولها القانون الانتخابي الغير متفق عليه والذي كان في اتفاق القاهرة تمثيل نسبي 75% ودوائر 25% ، أو القرار بقانون رقم 1 لسنة 2007، والذي اعتمد القانون النسبي الكامل، أو قانون الانتخابات الذي تمت عليه انتخابات 2006 المناصفة بين الدوائر والقوائم (التمثيل النسبي)، بل سيمتد للقضاء والطعن، والتأمين، وغيرها من تلك الإجراءات. وربما ما تم مع الدعوة لعقد الانتخابات المحلية في 2016 في محافظات قطاع غزة التي لم تكتمل، عقب قرارات المحاكم في غزة بابطال بعض قوائم فتح الامر الذي نجم عنه احتجاج فتح وإصدار حكم من محكمة العدل الفلسطينية في ذلك الوقت، بوقف الانتخابات البلدية في غزة، والاكتفاء بعقدها في الضفة فقط[4]، يعاد تكراره مرة أخرى مع الانتخابات التشريعية القادمة، خصوصاً في ضوء غياب الأفق في أي اتفاق سياسي قد يمهد الأرضية والمناخات لانتخابات قادرة بالفعل على الخروج بالحالة الفلسطينية من حالة المراوحة التي تمر بها. وسيُحمِّل كلُّ طرفٍ الآخر مسئوليةَ الفشل. الأمر الذي سيقود في النهاية في حال حدوث هذا السيناريو لإعلان رئاسي بإرجاء الانتخابات لتعذر إجرائها في الوقت الراهن.
وربما يؤدي اللقاء الوطني المنوي عقده عقب إعلان المرسوم الرئاسي الخاص بالانتخابات، إلى إبراز خلافات جوهرية حادة حول تفاصيل العملية الانتخابية مما يؤدي إلى تفاقم الموقف، وينتهي بنا المطاف إلى عدم اجراء الانتخابات
- سيناريو إقامة الانتخابات التشريعية بضمانة القائمة المشتركة:
يبدو هذا السيناريو حالياً متاحاً، خصوصاً في ضوء ما أعلنه “حنا ناصر” رئيس اللجنة المركزية للانتخابات “بأننا بتنا أقرب ما يكون لإجراء الانتخابات” عقب لقائه حركة حماس والفصائل في غــــــــزة، أي إقامة انتخابات تشريعية أولاً ومن ثم إقامة الانتخابات الرئاسية في غضون ثلاثة أشهر، ومن ثم مجلس وطني، انتخابات بالتتابع وليس بالتزامن، ولكن ضمن جدول زمني محدد ومتفق عليه.
وتعترض هذا السيناريو جملةً من التعقيدات القانونية والشكلية للانتخابات، ويتطلب بدايةً الاتفاق على كافة الإجراءات الفنية المتعلقة بالعملية الانتخابية وضمان نجاحها، سواء المرتبطة بالقانون الانتخابي الذي سيتم اعتماده كما أشارت الورقة سابقاً، أو المتعلق بتسيس القضاء كما حدث في الانتخابات المحلية 2016م، في قطاع غــــزة، أو المرتبطة بتأمين العملية الانتخابية في قطاع غزة.
إلا أن هذه الإشكاليات يمكن التغلب عليها، خصوصا في ضوء ما يرشح عن فكرة القائمة المشتركة لكافة الفصائل، وهو السيناريو المدعوم من قبل بعض القوى الإقليمية، والتي تحاول العمل عليه بما يعطي ضمانة وطمأنينة لكل الأطراف بالتواجد في المشهد السياسي الفلسطيني والحصول على شرعية ديمقراطية لاستمراره وبقائه، بما يعني تحييد العقبات الفنية والإجرائية التي قد تعطل اجراء الانتخابات، ويجعل من اللقاء الوطني آلية من اليات التوافق الوطني.
على الجانب الآخر هذا السيناريو تكون الانتخابات شكلية، هدفها الاستجابة لاشتراطات الاتحاد الأوروبي في استمرار صرف مساعداته المالية للسلطة الفلسطينية، فيما تحظى حركة حماس بتجديد شرعية وجودها ديمقراطياً أمام العالم، وتخفف من حدة عزلتها الدولية بما يشكل لدى الحركة اختراق على المستوى الدولي.
- سيناريو عدم الإعلان عن الانتخابات وتأجيلها:
يفترض هذا السيناريو إرجاء الإعلان الرئاسي بموعد الانتخابات، نتيجة جملة من العقبات أبرزها مماطلة الاحتلال أو رفضه لإجراء الانتخابات في القدس، وهو ما يستخدم كذريعة جوهرية لعدم الإعلان عن الانتخابات، حيث أن إجراء الانتخابات دون القدس، يعني تنازل فلسطيني عنها، وتساوقاً ومن ثم تعطيلها نتيجة العقبات التي تعترض طريقها، بما يعني انتهاء المناورة السياسية كما أشرنا في السيناريو الأول.
الخاتمة:
مأزق الحالة الفلسطينية شديد التعقيد، ولا يمكن لأيِّ باحثٍ التنبؤ بمسارات المشهد السياسي الفلسطيني، الذي تتجاذبه ثلاثة محددات رئيسية، وهي تجاذبات الإقليم، وإسرائيل، والمعونة المشروطة، بما يعني أننا أمام دائرة غير منتهية من الاحتمالات كما لو كنا بمصفوفة إلى ما لانهاية، ويبدو المشهد مرشحاً لكافة التناقضات، ولكن ما يحكم الفعل الفلسطيني هو مدى الاقتراب من العقلنة بحسب وصف “ماكس فيبر”، والعقلنة هنا تعني أن يتم التعامل مع الانتخابات خارج منظومة الانقسام، أي أن يتم التعامل معها كأداة نضالية على مستوى التحول الديمقراطي في العلاقات الفلسطينية الداخلية، وعلى مستوى التحدي مع الاحتلال في إطار الصراع الممتد لانتزاع الحقوق الفلسطينية، وإلا فإن الفوضى ودائرة التشرذم لن تتوقف وسنبقى رهائن لنرجسية الطبقة السياسية التي لاتزال تتعامل مع القضية وفق أهواء ومصالح شخصية فقط.
[1] -أكرم عطالله، ” الانتخابات كثقافة وصراع منضبط” موقع سما الاخباري،27/10/2019.
[2]– ألفريد سيبستيان، ” المعارضة الديمقراطية والنظرية الديمقراطية”، مقالة من كتاب الحكومة والمعارضة، 1997. جامعة كامبريدج، https://www.jstor.org/stable/44484069
[3] – ابراهيم ابراش، ” الدعوة للانتخابات تخلط الاوراق وتربك المشهد السياسي”
[4] – للمزيد حول الانتخابات المحلية ووقفها من قبل محكمة العدل الفلسطينية، انظر موقع الجزيرة https://www.aljazeera.net/news/arabic/2016/10/3/%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B3%D9%8A%D8%B3