إسرائيل: إعلان حرب على المجتمع المدني الفلسطيني

TR9 نوفمبر 2021آخر تحديث :
إسرائيل: إعلان حرب على المجتمع المدني الفلسطيني

د. طلال أبوركبة

مقدمة:

أثار إعلان وزير الجيش الإسرائيلي ” غانتس” بتصنيف ستة مؤسسات حقوقية فلسطينية بالإرهاب، حفيظة كافة المؤسسات الأهلية في الأراضي الفلسطينية، والتي نظرت للأمر بمثابة إعلان حرب من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلي على المجتمع المدني الفلسطيني، ومؤسساته الأهلية، خصوصا وأن المؤسسات الستة متنوعة المجال والأداء في الساحة الفلسطينية فمنها مؤسسات حقوقية تعنى بفضح الانتهاكات الإسرائيلية في حقل حقوق الإنسان، مثل الحركة العالمية للدفاع عن حقوق الأطفال، ومؤسسة الحق، وأخرى ذات بعد اجتماعي تنموي مثل مؤسسة بيسان للبحوث والإنماء، لجان العمل الزراعي، ومؤسسة نسوية مثل اتحاد لجان المرأة، إضافة لمؤسسة الضمير التي تعنى برعاية الأسرى.

هناك ملاحظتان أساسيتين قبل الخوض في غمار تفاصيل القرار الإسرائيلي ربما يساعدنا على الفهم المعمق لخلفيات القرار الأولى يتمثل في أن جميع هذه المؤسسات على اختلاف مجالها مركز عملها الرئيسي هو الضفة الغربية، أما الثانية فهو مرتبط بتنوع واختلاف مجال عمل تلك المؤسسات ما بين حقوقي وتنموي واجتماعي، بما يعني أن العدوان الإسرائيلي بات شاملاً على كافة أشكال العمل الأهلي في فلسطين.

تحاول هذه الورقة تقديم قراءة للموقف عقب الإعلان الإسرائيلي، وتقديم التوقعات خلال المرحلة القادمة أمام واقع ومستقبل عمل المؤسسات الأهلية في الأراضي الفلسطينية. كما أنه يجب النظر أثناء محاولات قراءة وفهم دلالات هذا الإعلان يجب أن تأتي في إطار تحرير المجتمع المدني من سطوة المعونة المشروطة من ناحية، ومن القيود الإسرائيلية من ناحية أخرى، باعتبار تلك القيود الإسرائيلية هي محاولة لفصل المجتمع المدني عن دوره التحرري والطليعي في النضال الوطني الفلسطيني.

خلفية القرار الإسرائيلي

بداية لا يمكن فصل وزير الجيش الإسرائيلي “غانتس” بتصنيف ستة مؤسسات حقوقية فلسطينية بالإرهاب، استناداً إلى ما يسمى “قانون مكافحة الإرهاب للعام 2016″، خارج السياق الإستعماري الإسرائيلي الرامي إلى تقويض كافة قدرات المجتمع الفلسطيني على الصمود والمواجهة.

كما أن مقدمات هذا الإعلان الإسرائيلي حاضرة في المشهد الصراعي الدائر بين المجتمع المدني الفلسطيني ومؤسساته الأهلية، وعلى وجه الدقة الحقوقية منها منذ ثورة حقوق الإنسان التي بدأت في العام 2005، بإصدار مذكرة اعتقال ضد دورون الموج قائد المنطقة الجنوبية السابق في الجيش الإسرائيلي، وما تبعها من تقرير جولدستون، ونجاح منظمات حقوق الإنسان في إصدار مذكرة قبض في العام 2009، من محكمة ابتدائية بريطانية بحق تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة بتهمة ارتكاب جرائم حرب أثناء العدوان الإسرائيلي في العام 2008/2009، على قطاع غزة وعيرها من المحاولات، التي أطلق عليها مسئوولين إسرائيليين في حينه بانتفاضة حقوق الإنسان الفلسطينية” لملاحقة المسؤولين الاسرائيليين[1].

تدرك إسرائيل جيداً عقب نجاحها في كي الوعي الفلسطيني والعربي بصعوبة الحاق أي هزيمة عسكرية بها، بأن مساحات الحركة الفلسطينية وربما العربية المساندة، ستكون في أروقة المحافل الدولية، سواء من خلال دفع الأمور إلي ساحات محكمة العدل الدولية لمحاسبتها على جرائم الحرب والإبادة التي تشنها باستمرار بحق الشعب الفلسطيني، خصوصا عقب قرار قضاة المحكمة الجنائية الدولية في (5 فبراير/شباط 2021) بأن المحكمة ومقرها لاهاي لها ولاية قضائية على جرائم حرب أو فظائع ارتكبت في الأراضي الفلسطينية مما يفتح المجال أمام تحقيق محتمل وذلك رغم اعتراض إسرائيل[2].

هذا بخلاف ما التوتر القائم ما بين إسرائيل والعديد من المنظمات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان، وخصوصا مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ورفضها للعديد من التقارير الدولية مثل تقارير الإسكوا، وتقارير منظمة هيومن رايتس ووتش مثل تقرير تجاوزا الحد[3]، وغيرها.

يضاف إلي ذلك الفشل الإسرائيلي الأخير في تصدير الرواية الإسرائيلية خلال أحداث الشيخ جراح، والعدوان على غزة، وما شهدته الساحة الدولية على مستوى الرأي العام الغربي من انقسام واضح في الموقف من الرواية الإسرائيلية، وهو ما تجسد في المظاهرات الصاخبة التي جابت العواصم الغربية من لندن إلي نيويورك، وشهدت مشاركة جماهيرية حاشدة منددة بالسياسات الإسرائيلية.

هذا بخلاف التطورات الدراماتيكية في المجتمعات الأوروبية، وخصوصا عقب إعلان حزب العمال البريطاني باعتبار إسرائيل دولة أبارتهايد “فصل عنصري[4]“، وموقف اتحاد طلبة جامعة كاليفورنيا والذي طالب بإقرار قانون يربط المساعدات المالية لإسرائيل باحترام حقوق الفلسطينيين[5]، إضافة للنقد اللاذع الذي بات يوجه إلي دولة إسرائيل في مختلف المحافل الدولية.

خطوة استباقية إسرائيلية:

اعتادت إسرائيل في كل معاركها على توجيه الضربات الاستباقية لخصومها، وذلك بهدف شل الحركة لديهم وارباكهم، وهو ما تحاول إسرائيل فعله في هذا الإعلان، اذ تحاول الاستفادة من قانون مكافحة الإرهاب من خلال الربط بين التصنيف الدولي لبعض الحركات والأحزاب السياسية الفلسطينية بالإرهاب وما بين تلك المؤسسات باعتبارها تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي إحدى المنظمات الفلسطينية المصنفة على لائحة الإرهاب.

وهذا ليس بجديد فلقد عملت إسرائيل على ابتكار آليات جديدة لفرض السيطرة على المجتمع المدني الفلسطيني، والتي تمثلت في الضغط الإسرائيلي المتواصل على الاتحاد الأوروبي لدفعه عن الامتناع عن تمويل المنظمات الفلسطينية بحجة دعم الإرهاب، وخصوصاً تلك المؤسسات الأهلية العاملة في مجال فضح الممارسات الإسرائيلية الاستعمارية وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، كما ذكرنا أعلاه.

تحاول إسرائيل تبني مصفوفة سيطرة لإخضاع المؤسسات الأهلية الفلسطينية عبر تدشين مجموعة من التدابير والأليات الشرسة لتقييد الحيز المتاح للمجتمع المدني في الأرض الفلسطيني، وإعاقة عمل المؤسسات الأهلية، سواء من خلال الاحتجاز التعسفي للنشطاء والعاملين فيها، أو شن حملات التشهير لنزع الشرعية عن عمل تلك المنظمات لحث الجهات الدولية المانحة عن تمويلها، وغيرها من الإجراءات.

ولقد بنت إسرائيل منذ سنوات آلية لرصد المنظمات الأهلية، في محاولة منها لتشويه مسار عملها وربطها بالإرهاب، وهو ما نجحت فيه نسبيا من خلال الضغط على الاتحاد الأوروبي الذي كان قد وضع اشتراطات على المساعدات المقدمة لتلك المؤسسات مطالبا إياها بنبذ الإرهاب، وذلك من خلال إنشاء منظمة “راصد المنظمات الأهلية NGO Monitor”، التي تستهدف بشكل مباشر المنظمات الأهلية الفلسطينية وكل من يتضامن من منظمات دولية أو تابعة للأمم المتحدة مع الشعب الفلسطيني. وهي المنظمة التي تسعى إلي دفع المنظمات الأهلية الفلسطينية إلى إدانة نضالها ونضال شعبها من أجل الحرية، من خلال الضغط على مجتمع المانحين لمقايضة التمويل بشروط الإدانة، تحت ستارة مكافحة الإرهاب.

أدوار مرفوضة للمؤسسات الأهلية في المنطقة C في الضفة الغربية:

يبدو أن الدور الذي باتت تلعبه المؤسسات الأهلية في المنطقة C من الضفة الغربية بات يؤرق واقع الاحتلال وأهدافه الرامية إلي ضم وابتلاع تلك المنطقة بدون سكانها، وهو الأمر الذي تعيقه بعض الجهود المؤسساتية في تلك المناطق.

إذ لا يمكن فهم السلوك الإسرائيلي بمنأى عن الهدف الإسرائيلي المركزي وهو ضرب كافة بنى صمود المجتمع الفلسطيني، وبعد نجاحها في صناعة وإدامة حالة الانقسام داخل الحقل السياسي الفلسطيني، وتدمير القطاع الاقتصادي الفلسطيني، لم يتبقى أمامها سوى المجتمع المدني باعتباره ثالث القطاعات الحيوية في أي مجتمع يمكن الارتكاز عليه في تعزيز صمود المواطنين وتكريس الوجود، وخصوصا في المناطق المهمشة والفقيرة، وربما كانت المنطقة C   والتي تشكل ما يقارب 60% من أجمالي مساحة أراضي الضفة الغربية، باعتبارها هي الهدف الرئيسي للسياسات الإسرائيلية الساعية إلي ضمها إلي أراضي دولة إسرائيل، ولكن معضلة السكان الفلسطينيين القانطين فيها تؤرق المستوى السياسي والعسكري الإسرائيلي، خصوصا وأن عددهم يقدر بحوالي 300ألف نسمة بحسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية [6].

تلعب المنظمات الأهلية الفلسطينية دوراً حيوياً في تعزيز صمود المواطنين في المناطق (ج)، من الضفة الغربية، خصوصا وأن هذه المنطقة تفتقد للخدمات الأساسية والبنية التحتية بشكل كبير، نتيجة التحكم والسيطرة الإسرائيلية، مما يدفع المنظمات الأهلية الخدماتية والإغاثية والحقوقية إلي لعب أدوراً متعددة في إطار حماية هذه المناطق وسكانها، وهو ما يسبب أرق دائم لسياسات إسرائيل التهجيرية.

إذ توثق المنظمات الأهلية الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة سواء تمثلت في هدم البيوت بحجة عدم التراخيص، أو مصادرة الأراضي لصالح مواقع عسكرية، او للاستيطان وشق الطرق الالتفافية …. إلخ، أو ما تقدمه من خدمات ومشاريع وبرامج لتعزيز بقاء المواطنين مثل بناء المدارس، أو حفر أبار المياه، وتقديم مساعدات زراعية وإغاثية .. إلخ من مختلف أشكال الدعم التي تقوم به تلك المنظمات.

تجاوز المكانة القانونية للسلطة:

اتفق أغلب المحللون على الإعلان الإسرائيلي بشأن المؤسسات الستة، فيه تجاوز كبير للولاية القانونية للسلطة الفلسطينية التي تعمل تلك المؤسسات تحت ولاياتها، وإشرافها الإداري ووفقًا للقوانين الفلسطينية،  وهو ما يُشكّل إعتداءً، ليس فقط على هذه المؤسسات ومنظومة حقوق الإنسان والمجتمع الفلسطيني برمّته فحسب، بل إنه في الواقع يشكل انتهاكًا إضافيًا خطيرًا يُلغي رسميًا الولاية القانونية للسلطة الوطنية الفلسطينية ودورها في مجرد إدارة شؤون الفلسطينيين، حتى بمفهوم الحكم الذاتي الذي بموجبه تشكّلت السلطة الوطنية وما زالت تعمل على أساسه[7].

فالإعلان وإن كان في مظهره يستهدف المؤسسات الستة، إلا أنه في جوهره يستهدف بشكل مباشر مكانة ووظيفة السلطة الفلسطينية باعتبارها المسئولة عن إدارة شئون الفلسطينيين في الأرض المحتلة بحسب اتفاق أوسلو الذي أسند لها بشكل مباشر الدور والمسئولية عن الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإن مثل هذا القرار يلغي عملياً الولاية القانونية للسلطة حتى على ما تعتبره حكومة الاحتلال مسئولية إدارية للسلطة على السكان في المدن والبلدات الواقعة داخل ما يسمى تصنيفات (أ، ب، ج).

إن هذا الإعلان يضع السلطة الوطنية أمام تساؤل كبير حول مكانتها القانونية في علاقاتها مع الاحتلال، وكذلك في جوهر وظيفتها لرعاية مصالح الفلسطينيين السياسية والقانونية، والدفاع عنها، إذ يعتبر مثل هذا الإعلان بمثابة إلغاء لمكانة السلطة الوطنية الاعتبارية والقانونية، وإحلال لسلطة الأمن الإسرائيلية مكانها، وفرض رؤيتها وقوانينها على السكان الفلسطينيين، من خلال عودة الإدارة المدنية للعمل كحكومة مدنية لجيش الاحتلال في الضفة الغربية، وربما هناك عدد من المؤشرات السابقة على مثل هذه الخطوات الإسرائيلية منها إصدار التصاريح للعمل داخل الخط الأخضر مباشرة من مكاتب الإدارة المدنية المنتشرة في الضفة الغربية بدلا عن وزارة العمل أو الشئون المدنية.

المسألة الهوياتية للمجتمع المدني قبل المواجهة والاشتباك:

يذهب الكثيرون إلى ضرورة رفض الإعلان الإسرائيلي والاشتباك معه باعتباره تهديد وجودي للمجتمع الفلسطيني، بكافة مكوناته، سلطة وشعب ومنظمات، ويستدعي البعض ضرورة العمل في المحافل الدولية من أجل ثني إسرائيل عن إعلانها، وحشد كافة سبل الدعم والمناصرة الدولية في مواجهة الإعلان الإسرائيلي، إلا أنه ورغم اتفاقي مع كل الخطوات، واقراري بأهميتها، تبقى هناك مسألة أساسية لابد من الخوض فيها وهي المسألة الهوياتية للمجتمع المدني الفلسطيني نتيجة للخصوصية التي يفرضها الواقع المعاش، إذ لا بد وأن يقدم المجتمع المدني الفلسطيني نفسه في إطار هوياتي خاص به يربط بين أدائه التنموي في إطار حالة تحرر وطني، لا يمكن الفصل بينهما، وهي الحالة التي يجب أن يدركها المانح الدولي، لكي لا يتم توظيف قانون الإرهاب 2016، كسيف مسلط على أداء المنظمات الأهلية الفلسطينية، واتهامها بأنها منظمات تدعم الإرهاب، وهي الحجة التي تعمل إسرائيل على توظيفها في إطار إرباك المنظمات الأهلية الفلسطينية، حيث قامت إسرائيل منذ عدة سنوات

كان المجتمع المدني  قد شهد خلال مرحلة ما بعد أوسلو تحولاً دراماتيكياً في منظومة قيمه، إذ أصبح يرتكز في تنفيذ مشاريعه ورؤاه التنموية على أموال المانحين، والتي اشترطت لتمويله الانتقال من تعزيز قيم الأدوار النضالية، إلي قيم ثقافة السلام وحقوق الإنسان والديمقراطية والحوكمة..إلخ، حيث أن هذا التمويل وشروطه حولها إلي “دكاكين مؤسساتية” أو كيانات مهنية وبيروقراطية، مما أحدث انفصالاً و مسافة بينها وبين القواعد الشعبية والمجتمعات المحلية، إذ بات تركيزها منصباً على المواعيد النهائية للمشاريع، والميزانيات، ومقترحات التمويل، والتقارير السنوية، وهو ما جعلها لاحقاً خاضعة تماماً لأجندة  مجتمع الممولين، الذي أفرغها من خطابها السياسي لصالح الخطاب التنموي[8].

يجب أن يذهب المجتمع المدني موحداً في خطابه إلي مجتمع المانحين باعتباره مجتمعاً غير قابل للفصل بين دوره الوطني والتنموي، خصوصا وأن كل أدبيات ونظريات التنمية تؤكد بأنه ” لا تنمية في ضوء الاحتلال”، وبأن التنمية هي الحرية، وهي توسيع لخيارات الناس، وأنه لا يمكن تحقيق ذلك بمنأى البعد التحرري للشعب الفلسطيني من نير الاحتلال، وأن النضال الوطني الفلسطيني في إطار التخلص من هذا الاحتلال هو أحد أسس ومقومات ومبادئ المجتمع الدولي والذي كفلت كافة مواثيقه حق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي النضال من أجل التحرر والاستقلال، وهذه المسألة هي الخطوة الأهم في مسيرة المجتمع المدني الفلسطيني تاريخيا، والذي امتاز على الدوام  بخصوصية جعلته مختلفاً عن أي مجتمع مدني آخر، إذ أنه نشأ وتطور في ضوء غياب الدولة، مما فرض عليه لعب أدوراً مركبة عبر تاريخه الطويل، عمل من خلالها على الجمع ما بين الدور التنموي، والنضالي معاً.

وأن الدور النضالي مكون رئيسي من مكونات كافة المراحل في تاريخ المجتمع المدني الفلسطيني، والذي عمل في محطات مختلفة -ولا يزال-على تعزيز صمود المواطن الفلسطيني على الأرض الفلسطينية في مواجهة السياسات الإسرائيلية الرامية إلى استهداف وجوده، وتفكيك بناه الاجتماعية في محاولة منها لنفي الصفة السياسية عن الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، مما فرض عليه حالة من الاشتباك الدائم مع الاحتلال وقراراته.

وهنا يمكن القول أن التشوه الذي أصاب بنية البيئة المؤسسية والعملية الإنمائية الفلسطينية[9] واخضاعها لخطاب بناء الدولة على حساب استكمال خطاب التحرر الوطني أثر بشكل سلبي في أجندة العمل الوطني للمؤسسات الأهلية وجعلها خاضعة لقسوة المساعدات الدولية المشروطة، حيث أخذت على نحو متنامٍ تحدد المشكلات الاجتماعية المحلية ومتطلبات التنمية وفقًا للمعايير التي صاغتها “صناعة” التنمية الدولية والتي تميل إلى منح الأولوية للحلول العالمية للمشكلات المحلية ذات الخصوصية على حساب القضايا الوطنية.

للخروج من المأزق:

إن تصحيح مسار العلاقة والفهم المتبادل بين المنظمات الأهلية الفلسطينية من ناحية، ومجتمع المانحين من أخرى، يتطلب إعادة صياغة رؤية شاملة للعمل الأهلي ومضامينه الوطنية والمجتمعية في استقلال كامل عن منظومة المعونة الخارجية، أي إعادة الاعتبار لمجتمع الصمود بالاستثمار في الموارد المحلية وتعبئتها. وفتح حوار شامل مع القطاع الخاص الفلسطيني حول الأدوار المنوطة بكل طرف، لدفع القطاع الخاص إلي لعب دوراً فعالاً في المسئولية الاجتماعية بالشراكة مع المنظمات الأهلية، في استعادة لفكرة مجتمع الصمود. فهذه هي الفرصة الحقيقة لاستعادة الدور والمكانة للمجتمع المدني بعد أن شوهته منظومة التمويل، التي نجحت في خلق حالة انفصال ما بينه وبين جمهوره، من خلال تعزيز فكرة الثراء الفردي للنخب المجتمعية والافقار الجمعي للجمهور الفلسطيني. وهي الاستراتيجية التي عمل من خلالها مجتمع المانحين من أجل تدجين المجتمع الفلسطيني، واجباره على إدانة نضاله الوطني من أجل الحرية والاستقلال في استجابة من البعض للسياسات الإسرائيلية.

ليس المطلوب فقط الاكتفاء بحملات التضامن مع المؤسسات الستة، وإنما المطلوب بناء خطة مواجهة واشتباك مع الاحتلال وسياساته، خطة تبنى على قاعدة التلاحم الوطني بين مختلف القطاعات الفلسطينية، نعيد من خلالها بناء الموقف الفلسطيني الرافض لكافة التجاوزات الإسرائيلية بما يفرض على المجتمع الدولي وخصوصا ومجتمع المانحين التصدي لسياسات الاحتلال وخطواته التفكيكية، وكذلك ممارسة الضغط على السلطات الإسرائيلية للحد من سياساتها في إخضاع الأصوات المنتقدة لممارساتها وانتهاكاتها في الأراضي الفلسطينية”.

تحرير المجتمع المدني الفلسطيني:

فلسطينيا لم يفت الوقت بعد لإنقاذ المجتمع المدني الفلسطيني مما يتعرض له من محاولة لتقويضه وتفكيكه وفصله عن إطاره النضالي والتحرري، إلا أن ذلك يتطلب تصور جديد لبدائل المعونة المشروطة بنظامها الحالي، وإيجاد مصادر تضامنية جديدة لتمويل أنشطة المجتمع المدني، وقد يشمل ذلك مخططات التمويل الذاتي التي من شأنها أن تُشرِك المزيد من الفلسطينيين في الشتات، ومجموعات التضامن الدولي، وحركات العدالة الاجتماعية، وأن تساعد في تقليل الاعتماد على التمويل المشروط.

ينبغي للمجتمع المدني الفلسطيني أن يتحدى ركائز نموذج التنمية الحالي الذي ثبت ضرره وعدم قابليته للاستدامة لأنها تناقِض الحقائق الأساسية على أرض الواقع. وفي المقابل، ينبغي للجهات الفاعلة في المجتمع المدني المعنية بالتنمية أن تحدد الأسباب الهيكلية التي تعوق التنمية وأن تستحدث نُهُجًا مبتكرة للتنمية تضع الاستدامةَ الذاتيةَ والمقاومةَ الاجتماعيةَ والاقتصاديةَ والثقافيةَ فوق المعايير التقنية المصطنعة[10].

مستقبل الفعل الفلسطيني:

يبدو أن المعركة طويلة وشاقة أمام المؤسسات الأهلية الفلسطينية، وهي بحاجة لبذل جهود كبيرة وفاعلة في دعم وإسناد وحماية المؤسسات الأهلية من الهجمة الإسرائيلية التي تريد اشغال المؤسسات الأهلية في فلسطين بالدفاع عن النفس بدلا من متابعة ورصد الانتهاكات الإسرائيلية، في محاولة منها لدرء الرماد في العيون فبدلا من ملاحقة إسرائيل وقادتها كمجرمي حرب، يتم العمل على ضرورة قيام المؤسسات الفلسطينية دليل برائتها من الاتهام الإسرائيلي بالإرهاب.

إن المطلوب فعله الأن هو بناء حالة من التضامن الدولي والعربي والشعبي لمواجهة إسرائيل والمضي قدما في كشف جرائمها، وإن الاستجابة للدور الذي تحاول إسرائيل رسمه للمؤسسات الأهلية من خلال الفصل بين أدوارها التنموية والنضالية، باعتبارها تدافع عن شعب لا يزال تحت نير الاحتلال يعنى نجاح الاحتلال في خطته المرسومة بعناية ودقة.

إن مواجهة تلك السياسة يحتاج إلى تضافر الجهود على المستوى الرسمي ممثلا في النظام السياسي الفلسطيني وكافة القطاعات الأهلية والجماهيرية لرفض القرار الإسرائيلي والإصرار بشكل أكبر على الذهاب إلى المحافل الدولية وفي مقدمتها محكمة الجنايات الدولية لفضح كافة الممارسات والسياسات الإسرائيلية.


[1] – مصطفي إبراهيم: ” تحويل القرار الإسرائيلي وصم المنظمات الحقوقية بـ “الإرهاب” إلى فرصة”، موقع ملتقي فلسطين، https://www.palestineforum.net/%d8%aa%d8%ad%d9%88%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84%d9%8a-%d9%88%d8%b5%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%85%d8%a7%d8%aa/

[2] – “الجنائية الدولية” تؤكد ولايتها القضائية على الأراضي الفلسطينية: موقع أكاديمية DW,

https://www.dw.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%A4%D9%83%D8%AF-%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%A7%D8%B6%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9/a-56477110

[3] – منظمة هيومن رايتس ووتش: ” تجاوزا الحد” https://www.hrw.org/ar/video-photos/video/2021/04/26/37856

[4] –  الجزيرة نت: ” حزب العمال البريطاني يؤيد معاقبة إسرائيل والاعتراف بدولة فلسطين”، https://www.aljazeera.net/news/politics/2021/9/27/%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%8A%D8%A4%D9%8A%D8%AF-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%82%D8%A8%D8%A9

[5] – وكالة وفا: “اتحاد طلاب كاليفورنيا” يقر قانونا يربط المساعدات المالية لإسرائيل باحترام حقوق الفلسطينيين”، https://www.wafa.ps/Pages/Details/34187

[6] – مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية: (موجز بيانات مواطن الضعف في المنطقة ج)، في بؤرة الضوء.

[7] – جمال زقوت: ” تصنيف الاحتلال لمؤسسات حقوقية فلسطينية بالإرهابية المخاطر والتحديات والمسؤولية الفلسطينية”، https://www.maannews.net/articles/2052614.html

[8] طلال أبوركبة: المنظمات الأهلية مطرقة الانقسام وسنديان اشتراطات التمويل”، شبكة السياسات الفلسطينية، https://al-shabaka.org/op-eds/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D9%88/

[9] – طارق دعنا: “المجتمع المدني الفلسطيني : أين العلة؟” شبكة السياسات الفلسطينية، https://al-shabaka.org/briefs/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D8%A3%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%90%D9%84%D9%91%D8%A9/

[10] – طارق دعنا: مرجع سابق

الاخبار العاجلة
مركز الأرض للأبحاث والدراسات والسياسات يستخدم ملفات تعريف الارتباط "الكوكيز" لمنحك أفضل تجربة ممكنة.
موافق