طلال أبو ركبة
نجح الشباب الفلسطيني المنتفض في الجولة الأخيرة من جولات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في استعادة الأمل في إمكانية إعادة بناء الوعي المشترك بين التجمعات الفلسطينية على اختلاف أماكن تواجدها، وتعزيز الجامع المشترك بين الفلسطينيين من جديد، وبناء العلاقات السياسية والاجتماعية على أساس تضامني يركز على المشروع التحرري والانعتاق من الاستعمار.
استعادة الأمل والإمكانية التي أوجدها الشباب الفلسطيني في كافة التجمعات الفلسطينية، أعاد من جديد للقضية الفلسطينية رونقها، بعد سنوات من هيمنة حالة الإحباط والتفكك والشرذمة التي ضربت ولا تزال بينة النظام السياسي الفلسطيني، أو كما يسميه جميل الهلال ب”الحقل السياسي”.
تنوع الفعل الشبابي بحسب الجغرافيا السياسية أبرز بشكل لافت أهمية استعادة الدور والإمكانية التي يمكن أن يلعبها الشباب في إطار رحلة الدفاع عن الحقوق السياسية الفلسطينية، خصوصا وأن التلاحم الوطني الذي شاهدناه خلال الهبة الشعبية الأخيرة، والتي يمكن أن نطلق عليها انتفاضة القدس، جاء في إطار افشال لسياسات إسرائيلية ممتدة عملت على مدار عقود من خلال مصفوفة من السيطرة والتحكم إلى إحلال الهموم والخصوصية المناطقية والمحلية في الواقع الفلسطيني على حساب الهم الوطني والجامع، فكان ذلك التلاحم الوطني في أبهى صوره ما بين الكل الفلسطيني، فمن القدس إلي الداخل المحتل، إلي غزة، إلي الضفة الغربية، إلي الشتات الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده.
من جديد نجح الشباب الفلسطيني في أن يعيد للقضية الفلسطينية، وأن يجبر العالم كله في استعادة حساباته مع القضية، التي بدت قبل تلك الجولة من الصراع، كما لو أنها في انحسار بفعل ما تركه الانقسام الفلسطيني الداخلي من ناحية، وانهيار النظام العربي الرسمي عقب ثورات الربيع العربي، والهرولة نحو التطبيع عقب صفقة القرن الأمريكية من ناحية أخرى، حتى وصل الأمر إلى اعتبار أن القضية الفلسطينية لا تشكل 1% من إجمالي الإشكاليات في الإقليم الملتهب بحسب تصريح عضو الكنيست الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان.
كما نجح الشباب في لفت نظر العالم بأكمله إلى أزمات قطاع غزة الذي يعتبر أكبر سجن مفتوح في العالم، وأعادوا من جديد فرص لإحياء ضرورة انهاء الانقسام داخل البيت الفلسطيني، وضرورة توحيد وتفعيل المؤسسة الفلسطينية، خصوصا وأن الالتفاف الجماهيري حول انتفاضة القدس شمل كافة الجغرافيا السياسية سواء داخل فلسطين التاريخية، أو في الشتات الفلسطيني في مختلف أنحاء العالم.
قدم الشباب الفلسطيني في تلك الجولة من جولات الصراع نموذجاً مختلفاً، عما اعتدنا عليه في كافة الجولات السابقة، فكانت لصحافة المواطن التي امتازوا بها، دوراً بارزا في إحداث تحول في السردية الصهيونية في الرأي العام العالمي، واعتمدوا مواجهة البطش الإسرائيلي بعلامة النصر والابتسامة أمام الكاميرا، في واحدة من ابداعات الشباب في محاولته لنزع الصورة الأخلاقية التي عملت دولة الاحتلال على تصديرها للعالم عن نفسها.
كما كان الحضور اللافت للشباب بخطاب عقلاني على كافة محطات التلفزة الدولية، أثراً مهماً في إحداث ثغرة في الرواية الصهيونية في العالم، حيث قدم الشباب الفلسطيني نفسه للعالم، بحرفية عالية كضحية حية تقاوم، فقدم خطاب حقوقي يستند على مبادئ القانون الدولي والإنساني، ومعرفة تامة بتفاصيل القضية والحق الفلسطيني، ومهارة عالية في اللغة، ومخاطبة الجمهور الغربي.
يدفع هذا الحضور والأداء المميز للشباب الفلسطيني الحاجة إلى استحضار التساؤل دائم الحضور في المشهد الفلسطيني حول الفرص المتاحة أمام الشباب في الحقل السياسي الفلسطيني، ومدى قدرتهم على استنهاض المؤسسة الفلسطينية من جديد.
يذهب أغلب الباحثون في تناولهم للأزمة البنيوية التي تضرب بعمق في عصب النظام السياسي الفلسطيني، بفعل سياسات الاحتلال وعلاقات التبعية تارة، وبفعل غياب الدمقرطة وتجديد الشرعيات لكافة مؤسساته تارة أخرى وبفعل حالة الانقسام والتشظي والازدواجية في المؤسسات الفلسطينية منذ الانقسام الداخلي في حزيران 2006، تارة ثالثة. وهي الحالة التي أثرت على العلاقات والتفاعلات الفلسطينية الداخلية على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين الفلسطينيين على اختلاف أماكن تواجدهم.
كما أنهم يتفقون أن الشباب عليهم دور هام وحيوي في تعزيز الجامع المشترك بين الفلسطينيين، وفي بناء العلاقات السياسية والاجتماعية على أساس تضامني يركز على المشروع التحرري والانعتاق من الاستعمار، ويثار هنا تساؤل مفصلي في إطار رؤية التجديد والتغيير في الحالة الفلسطينية، مرتبط بمدى النجاعة والقدرة لدى الشباب حول القيام بهذا الدور، وهو ما ستحاول هذه الورقة ابراز ملامحه.
الشباب معطيات وأرقام:
بداية ونتيجة لحالة الشتات التي تمر بها التجمعات الفلسطينية، فلا يوجد إحصائيات أو معطيات كمية دقيقة حول الشباب في مختلف أماكن تواجده باستثناء المعطيات التي يقدمها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وهي مقتصرة لحد بعيد على الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، إضافة لبعض المعلومات التي تقدمها بعض المؤسسات الأهلية حول الشباب من خلال دراسات تعمل على دراسة الهوية مثل معهد دراسات التنمية التابع لجامعة بيرزيت بالتعاون مع هيئة الأصدقاء الأمريكية.
إجمالاً تبرز المعطيات الإحصائية والدراسات الكمية المتوفرة حول الشباب، حجم التهميش الذي يعاني منه الشباب في الواقع الفلسطيني إضافة لحالة الإختلاف في التحديات التي تواجههم باختلاف الجغرافيا السياسية سواء على المستوى الفردي والجماعي، إذ تشير كافة المعطيات إلى أن المجتمع الفلسطيني مجتمعا فتياً إذ أن ما نسبته 22% من إجمالي السكان في الأراضي الفلسطينية هم من الشباب ضمن الفئة العمرية (18-29) سنة، أي بما يعادل خمس السكان تقريباً، بحسب معطيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني 2020، كما تشير تلك الاحصائيات إلي تلاشي الأمية تماما بين صفوف الشباب، وأن هناك 180من بين كل ألف شاب حاصل على درجة البكالوريوس في الأراضي الفلسطينية.
أما على المستوى الاقتصادي، فتشير المعطيات إلى أن البطالة فلقد بلغت بين صفوف الشباب ما نسبته 38% بواقع 63% في قطاع غزة، مقابل 23% في الضفة الغربية.
فيما أظهرت بيانات المسح الأسري لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لعام 2019 أن نسبة الشباب في العمر (18-29 سنة) الذين يستخدمون الانترنت من أي مكان قد بلغت 86% في فلسطين بواقع 90% في الضفة الغربية و79% في قطاع غزة. دون وجود فروقات بين الذكور والاناث. كما أشارت البيانات أن 94% من الشباب الذين يستخدمون الانترنت استخدموا شبكات التواصل الاجتماعي او المهني (فيسبوك، توتير، لينكد ان.. الخ) بواقع 96% في الضفة الغربية و91% في قطاع غزة.
ولقد أظهرت دراسة مركز دراسات التنمية التابع لجامعة بيرزيت حول ” الشباب الفلسطيني الفلسطينيون: الهوية والمشاركة والمكان” والتي أجراها بالتعاون مع هيئة خدمات الأصدقاء الأمريكية في حزيران 2020، بأن 60% من الشباب المشارك في عينة الدراسة يرون بأن التهديد الشخصي الرئيس يرتبط بأوضاعهم الاقتصادية. وهذا التهديد بحسب الدراسة يتشابك مع الظروف والسياق المعاش لكل مكون فلسطيني، ومع البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والتي ساهمت في تشكيل مخاطر وتهديدات إضافية ضمن الواقع الجيوسياسية.
شرذمة الحالة الشبابية في فلسطين:
بداية لا يمكن التعاطي مع فئة الشباب باعتبارها كتلة أو شريحة عمرية واحدة متجانسة، ولكن هذا لا يعني أن يتم وضعهم خارج الحالة الوطنية أو خارج قضايا المجتمع المتنوعة، فالشباب مكون أساسي من مكونات أي تشكيلة اجتماعية وسياسية واقتصادية وتاريخية، وقضايا الشباب على الدوام هي من صلب قضايا المجتمع وقضايا المجتمع هي من صلب قضايا الشباب، ولطالما كان الشباب الفلسطيني على الدوام جزءاً من إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وهو ما حدث مع الحقل السياسي الفلسطيني ما بعد النكبة، وانطلاق مرحلة التحرر الوطني في ستينات القرن الماضي
إلا أن الشباب عانى من التهميش والغياب على مستويات المشاركة السياسية عقب مرحلة أوسلو، حيث شهد المجتمع الفلسطيني تراجعاً ملحوظاً للشباب في المشاركة السياسية، نتيجة السياسات المتبعة من قبل السلطة الفلسطينية في مؤسساتها الناشئة بفعل بروز الزبائنية في النظام السياسي الفلسطيني. ليجد الشباب الفلسطيني مع مرور الوقت أنفسهم خارج التشكيلات السياسية القائمة، إذ تشير الدراسات إلى أن نسبة تمثيل الشباب داخل مؤسسات وهيئات صنع القرار في مؤسسات السلطة الفلسطينية لا تتجاوز 1%.
ازدادت الأوضاع سوء بالنسبة للشباب الفلسطيني عقب أحداث الانقسام الداخلي في حزيران /تموز 2007، والتي ساهمت في خلق حالة من الفصل بين تجمعيين رئيسين من التجمعات الفلسطينية (الضفة الغربية التي تسيطر عليها حركة فتح، وقطاع غزة الذي تسيطر عليه حركة حماس)، ليساهم هذا الفصل بشكل كبير في شرذمة المجتمع الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وبالتالي شرذمة الحالة الشبابية وغياب وحدتها، وتطورها، خصوصا مع غياب أو وأد التجربة والممارسة الديمقراطية في كافة المؤسسات الفلسطينية، وفي مقدمتها المؤسسات الشبابية حيث عطلت الانتخابات الطلابية والنقابية بخلاف الانتخابات التشريعية والرئاسية منذ ذلك التاريخ.
تعطيل الديمقراطية الفلسطينية وأد لفرص الشباب:
بالرغم من غياب التجربة الديمقراطية في مراحل كثيرة من التاريخ الفلسطيني الحديث، لأسباب موضوعية ارتبطت في كثير من الأحيان بأزمة الاقتلاع والتشريد التي مارسها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، إلا أن الفلسطينيون نجحوا تاريخياً وعبر محطات تاريخية مختلفة من تحويل الفرص الديمقراطية التي أتيحت لهم ما قبل أوسلو، إلي حالات نضالية يوكدوا من خلالها على حقهم في الحرية وتقرير المصير، ومن هنا كان التحدي الفلسطيني لإرادة الاحتلال في تجربة روابط القرى، أو في الانتخابات الطلابية في الجامعات الفلسطينية وخصوصا جامعتي بيرزيت والنجاح الوطنية، والتي كان ينظر لها كاستفتاء وطني على شرعية الحركة الوطنية، وحتى التعامل الفلسطيني خلال مرحلة الكفاح المسلح والثورة الفلسطينية ما بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية كان يتسم بشكل كبير فيما يمكن أن نطلق عليه بالديمقراطية التوافقية، أو ديمقراطية غابة البنادق بحسب وصف الرئيس الراحل ياسر عرفات.
عقب قيام السلطة الفلسطينية لجأ المجتمع الفلسطيني إلى شرعية الصندوق في بناء وتطور نظامه السياسي، ونجح بالفعل في مرتين متتاليتين من أجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية 1996، و2006، بالإضافة إلى انتخابات رئاسية في 1996، و2005.
أما الانتخابات المحلية فلقد أجريت مرة واحدة في قطاع غزة في العام 2005، ثم توقفت نهائيا بفعل الانقسام السياسي الفلسطيني، فيما أجريت عقب ذلك في الضفة الغربية في الأعوام 2012، و2016.
في ضوء هذا الواقع المتعرج لمسار الديمقراطية الفلسطينية لم يكن الحضور الشبابي مناسباً في المشهد الانتخابي الفلسطيني، ترشيحاً، فيما كان الحضور فاعلاً تصويتا، حيث كان في كل مرة ينظر فيها للشباب باعتبارهم كتلة تصويتة ويتم التعامل معهم وفق ذلك المنظور، ولم يكن المشهد السياسي الفلسطيني يتعامل مع الشباب باعتبار تمكينهم السياسي ضرورة فلسطينية ملحة في إطار رفد المؤسسة الفلسطينية بالطاقات المتجددة، وذلك بفعل هيمنة قيم الأبوية والبطريركية على قيم العمل السياسي الفلسطيني، سواء على مستوى المؤسسات الفلسطينية، أو على مستوى بنية الأحزاب السياسية.
ساهم هذا الواقع تلقائياً على معدلات الثقة لدى الشباب بالحركات والأحزاب السياسية الفلسطينية، حيث أشارت دراسة بيرزيت، بأن ما نسبته 74% من الشباب لا يثقون بالأحزاب والحركات السياسية الفلسطينية، فيما أشار 57% من الشباب إلى غياب لأي طرف من تمثيلهم سياساً. وهذا يشير إلى حجم الفجوة في العلاقات السياسية بين الشباب والأحزاب السياسية وغياب الثقة بها، وهذا عائد بشكل واضح إلى حالة التكلس التي أصابت الأحزاب السياسية التي انغمست في مصالح فئوية فردية على حساب المصالح العامة للمجتمع الفلسطيني وخصوصا الشباب فيه، مما دفع الشباب الفلسطيني إلى الانكفاء نحو الذات، وهيمنة مفاهيم الخلاص الفردي على حساب الخلاص الجمعي، كنتيجة طبيعية، مع تفاقم ممارسات التهميش لدورهم السياسي والمجتمعي والاقتصادي، وازدياد معدلات القمع والتنكيل بهم خلال تلك الفترة. وهذا ربما كانت أبرز مؤشراته في بروز الحراكات الشبابية من خارج الأحزاب خلال سنوات الانقسام الفلسطيني الداخلي.
الحراكات الشبابية في فلسطين:
ساهمت ثورات ما يعرف بالربيع العربي، التي انطلقت في العديد من الميادين العربية، في بروز ما يعرف اصطلاحا بالحراكات الشبابية، خصوصا وأن تلك الثورات كانت قد تشكلت بقوى شبابية بحتة، مستاءة من سياسات أنظمتها، وغير مقتنعة بأداء المعارضة التقليدية فيها.
حملت تلك الحراكات الشبابية جملة من السمات بحسب العديد من الباحثين، والتي تجلت في الابتعاد عن الأحزاب والفصائل الكلاسيكية، كما أنها لا تسعى لأن تكون بديل حزبي أو فصائلي عما هو قائم في المجتمع، وهي تنظر لنفسها وتعرف ذاتها باعتبارها حركة احتجاج مناهضة للواقع، وتسعى لتغييره دون أن تمتلك رؤية أو تصور لمرحلة ما بعد التغيير، وهو ما يجعلها بحسب وصف الباحثين حركات تغيير وليس حركات بناء وتطوير. هذا بخلاف أنها تمتاز بالمرونة في الحركة نتيجة الانسيابية في اتخاذ القرارات داخلها، حيث لا توجد مرجعيات فكرية أو أيديولوجية تقودها، أو قيادة مركزية توجهها، وأغلب الأحيان فإن قراراتها توافقية جماعية، كما أن القائمين عليها يطلقون على أنفسهم لقب نشطاء وليس أعضاء، وهو ما يعني أن مساحة الحرية في اتخاذ القرار لدى الناشط كبيرة سواء في الاستمرار في الحراك او الانسحاب منه دون يترتب عليه التزامات، إضافة لعدم وجود تصور لديهم في كيفية الاستمرار في الحراك أو انهائه.
فلسطينيا حاول الشباب الفلسطيني التقاط الفرصة في مناهضة النزعة التفكيكية التي تواجههم، وكانت لديهم محاولات مختلفة لمواجهة هذه الحالة، ربما كانت ابرزها تشكيل العديد من الحركات الشبابية الرافضة للاستسلام لواقع الانقسام والتشظي مثل حراك 15آذار لإنهاء الانقسام، وحراك الكهرباء، وبدنا نعيش في غزة، ومجموعات الأمل ونبض وهبة في الضفة الغربية، وهبة البوابات الاليكترونية في القدس، وحراك حيفا، وشباب التغيير في الناصرة، وحراك برافر داخل الأراضي المحتلة 1948.فيما شهد الشتات الفلسطيني في لبنان محاولات لتشكيلات شبابية بعيدة عن الأحزاب السياسية مثل الشبكة الشبابية الفلسطينية، وحملة المخيمات تقاطع… وغيرها، إلا أن هذه الحراكات لم تنجح في الاستمرار أو في تحقيق أهدافها، وذلك لعدة أسباب منها:
أولا: غياب التجانس بين المجموعات الشبابية وغياب التجربة التنظيمية بين صفوفهم، خصوصا وأن العديد من الشباب لم يحظى بخوض تجربة ديمقراطية واحدة طوال حياته، مما ساهم في بروز أمراض الزعامة المبكرة فيما بينهم، إضافة لغياب الهم الجامع لدى الشباب حيث كانت تلك الحراكات الشبابية مناطقية أو محلية، كل حراك منها يحاكي واقع التجزئة الجغرافية التي فرضها الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، وهذا ربما ما يؤكده جميل هلال في فشل الجامعات الفلسطينية باعتبارها جامعات وطنية من حيث تكوينها، واعتبارها أقرب لجامعات محلية تستقطب كل جامعة بالأساس طالبها من محيطها الجغرافي، وهو ما ساهم في نجاح تلك الحراكات لتكون حراكات وطنية.
ثانياً: الارتدادات الحزبية والفصائلية، حيث سعت الفصائل والحركات السياسية إلي محاولة فرض أجندتها على تلك الحراكات مستفيدة من حالة الانقسام، وتشويه تلك الحراكات أو القائمين عليها باعتبارهم ممولين أو تابعين لجهة ما من طرفي الانقسام، وهو ما أدى إلي صراع بين الشباب أنفسهم، وارتدادهم لأحزابهم في نهاية المطاف.
ثالثاً: غياب مفاهيم وقيم العمل الجمعي لدى الشباب الفلسطيني، حتى أن النشطاء الذين بروزا في الحالة الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين، كان بروزهم فردي، لا يعكس بأي حال من الأحوال، القدرات الجمعية للشباب، ولقد اكتسب هؤلاء النشطاء المهارات والمعارف من خلال مؤسسات المجتمع المدني، والتي كانت فلسفة العمل لديها تقوم على مفاهيم التمكين الفردي وليس التمكين الجمعي، مما عزز من روح الفردانية بين الشباب الفلسطيني.
رابعاً: وهن وهشاشة الحراكات الشبابية لعدم قدرتها على مأسسة بنيتها على شكل تجمع، أو تشكيل حركة لها ماكينتها الإعلامية وشبكة علاقاتها الزبائنية التي تمكنها من تمثيل الشباب والتحدث باسمهم.
الشباب الانتخابات التشريعية الملغاة:
وجد الشباب الفلسطيني في المرسوم الرئاسي لإجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية الملغاة فرصة سانحة لانتزاع حقوقهم وعلى الفور بدأ الشباب في تشكيل القوائم الانتخابية الشبابية المستقلة بعيداً عن الأحزاب السياسية الكلاسيكية، والتي أيضا بدورها لجأت إلي جذب الشباب من خلال ترشيح عدد منهم داخل قوائمها الانتخابية، أو من خلال خطابها الذي بدأ يتبنى في لحظة الانتخابات حقوق واهتمامات الشباب كأولوية في رؤيتها، خصوصاً وأن الشباب شكل 40% من السجل الإنتخابي، بما يعني أنهم فائض قوة انتخابية لا يمكن تهميشه أو اقصائه.
برز التعطش الشبابي للعملية الديمقراطية بشكل واضح سواء من خلال التسجيل في السجل الإنتخابي، أو من خلال القوائم الانتخابية التي تشكلت والتي بلغت 36 قائمة انتخابية، وكانت نسبة الشباب المترشح في القوائم الانتخابية ممن هم دون سن الأربعين قد بلغت ما يقارب 39% من إجمالي المرشحين، وهو ما يبرز حالة التعطش لدى الشباب من أجل الحصول على فرصة لتمثيل أنفسهم في مراكز صنع القرار. مما دفع الشباب لتشكيل قوائم شبابية خاصة بهم، خصوصا وأن الشباب يدرك أن الخطابات السياسية وبلاغتها الانتخابية وعملية الاستقطاب الحاد خلال العملية الانتخابية لا تعبر بالضرورة عن واقع الحال الفلسطيني فيما يتعلق بالشباب ومسألة ترشيحهم، وهذا ما نجح الشباب إلي حد ما في التقاطه خلال العملية الانتخابية التي لم تكتمل، خصوصا وأن المؤشرات القائمة تؤكد ذلك، فلو نظرنا فقط إلي متوسط أعمار أعضاء أهم أربعة مراكز سياسية فلسطينية وهي: (اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، واللجنة المركزية لحركة فتح، والمكتب السياسي لحركة حماس، ومجلس الوزراء الفلسطيني)، سنجد أنها تبلغ متوسط عمري يقترب من 63 سنة، حيث أن متوسط أعمار أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح والتي أفرزها المؤتمر السابع بلغت 64 عاماً. في حين أن آخر لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بلغ معدل أعمار أعضائها 68 عاماً. أما حركة “حماس” فإن متوسط أعمار أعضاء المكتب السياسي الحالي هو 60 عاماً. أما متوسط أعمار الحكومة الثامنة عشر التي يرأسها محمد اشتية فقد بلغ 60 عاماً. وهو مؤشر يؤكد في نهاية المطاف أن فئة الشباب لدى المؤسسات الفلسطينية، ليسوا ذاتهم الشباب وفق التعريفات القانونية والمقاييس السكانية.
بالرغم من عدم استكمال العملية الانتخابية والغائها، إلا أن التجربة الشبابية خلال مرحلتي التسجيل والترشح نجحت في كسر تابوهات السياسة التقليدية النمطية في الحياة الفلسطينية، وأعطت الشباب الفرصة لتجاوز حاجز الخوف في خوض غمار العملية السياسية، والبحث عن تشكيلات سياسية جديدة تمكنهم من الوصول إلي مراكز صنع القرار، حتى وإن كانت لا تمتلك في هذه المرة من الحظوظ والرهانات ما يمتلكه الحزبان الكبيران، أو تفتقر إلي أدوات النجاح في الانتخابات أو تحقيق نتائج لافتة، إلا أن هذه التجربة وما راكمته من خبرات لجيل الشباب الحالي، يمكن التعويل عليها في مراحل مقبلة وجولات أخرى.
انتفاضة القدس مسار شبابي جديد:
نجح الشباب الفلسطيني في اجتراح مسار شبابي جديد خلال انتفاضة القدس الحالية، والتي يجب النظر إليها، باعتبارها عملية تاريخية قيد التشكل خارج نطاق مقاربات الإصلاح والترميم للنظام السياسي الفلسطيني، الذي تهيمن عليه علاقات أسيرة للعلاقة الاستعمارية القائمة على الفصل بين المكونات الفلسطينية، فيما تعتبر تلك الانتفاضة خروجا عن هذه العلاقة وتمرداً واضحاً عليها، وإعادة انتاج وعي فلسطيني جديد مرتبط لحد بعيد باستعادة التوصيف الصحيح للعلاقة مع مستعمر يسعى لطمس الهوية والحقوق الوطنية الفلسطينية. وهي حالة تشكل امتداد لأشكال من التعبير والعمل السياسي الجمعي للشعب الفلسطيني باختلاف الجغرافيا السياسية.
إلا أنه ومع ذلك لا يمكن الذهاب إلى الفصل بين أشكال العمل السياسي التقليدي للمنظمة والسلطة والأحزاب وأشكال العمل السياسي الجديد التي يتصدرها الشباب الفلسطيني، الذي أجاد تقديم نفسه خلال هذه الجولة من الصراع، وقدم نماذج شبابية فلسطينية قادرة ومتمكنة من مواصلة العمل السياسي والكفاحي الفلسطيني، وهذا يتطلب تطوير مسار جديد يتم فيه البناء على ما يجمع الفلسطينيين في الوطن والشتات، ويجمع ما بين البحث عن المخرج الحقيقي القادر على إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني.
فاللحظة الحالية هي لحظة أمل تعني أن هناك جيلا جديداً يلتقط الفرصة ويكسر احتكار السياسية دون أذن من أحد، لإعادة صياغة العلاقة مع الاحتلال باعتبارها علاقة صراع، وليس “تفاهم”. وقد تكون تلك اللحظة وارهاصاتها شبيهة لمرحلة ما بعد النكبة التي شق خلالها جيل جديد شاب طريقه، وطور أشكال عمله وأدواته وصولا إلى تشكيلات سياسية استمدت شرعيتها من الشعب الذي أضفى عليها الشرعية دون انتخابات.
إن نجاح الشباب في الصعود إلى موقع القيادة في النظام السياسي يتطلب منهم أولا العمل وفق مبدأ التشاركية، وتجاوز المناطقية، والابتعاد قدر الإمكان عن محاولات الاحتكار والاحتواء، والاستثمار الجاد في إعادة بناء الفضاء السياسي الفلسطيني.
مهمات شبابية لاستثمار الهبة
مما لا شك فيه أن توجهات ومواقف الشباب تشكلت في سياق التجزئة والشرذمة التي عاشها ولا يزال كافة مكونات المجتمع الفلسطيني، سواء تلك المرتبطة بالمشروع التحرري واستراتيجية التعامل لإدارة النضال الوطني ضد المحتل، أو المرتبطة بالعلاقات والتفاعلات السياسية والمجتمعية بين الفلسطينيين، وإذا كان الموضوع الأول مرتبط بالاحتلال، فإن الثاني مرتبط لحد بعيد باتفاقية أوسلو وما عمقته من واقع وحدة الشرذمة والتجزئة، وهو ما يتطلب بلورت رؤية نقدية لمالات التجربة الفلسطينية.
وضعت اللحظة التاريخية الراهنة الشباب الفلسطيني أمام مهمات و تحديات كبيرة، مما يتطلب منهم فعلا حقيقا ومختلفا عن كافة الأشكال السابقة التي عرفتها التجربة الفلسطينية، حيث نجحت الهبة بأشكالها المختلفة باختلاف الجغرافيا الفلسطينية، في أن تعيد طرح تحدي جوهري إزاء إمكانية التوجه نحو تأطير الحراكات والأطر الشبابية بما يضمن الاستمرارية وقوة الدفع التي من شأنها أن تحول هذا القطاع، ليصبح الفاعل والمحرك الرئيس لمتطلبات التغيير الديمقراطي والاستجابة في ذات الوقت لتنمية الشعور الوطني، خصوصاً في ضوء انسداد برامج الأطراف المهيمنة على المشهد.
إن ما حدث يؤكد بأن القضية لا تُختزل فقط في خلق مساحة جديدة خارج أو داخل منظمة التحرير الفلسطينية، وإنما في تغيير السلوك السياسي لدى الفلسطينيين كشعب مسيس وينتمي إلى الأطر السياسية المتواجدة حاليا. يتحتم على هذ السلوك السياسي الانتقال من السقف الحزبي إلى السقف الوطني. الذي كرسه وعززه الانقسام الفلسطيني الداخلي، فما حدث هو تجاوز للمناطقية الضيقة، واعلان صريح عن الحاجة الى ضرورة تعزيز الوطني على حساب الحزبي.
لفتت الهبة الانتباه إلى ضرورة التقاط الفرصة وانتزاع المبادرة من قبل القوى والاتجاهات الاجتماعية، لبلورة برنامج ملموس للإنقاذ الوطني والبناء الديمقراطي يضع قطاع الشباب في صدارة المشهد الوطني، ولكي تتجاوز تلك الإمكانية مربع الطموحات الحالمة التي تراود النشطاء والحراكات الشبابية، فإن المطلوب فعله الأن هو:
- العمل على فتح مساحات ومنصات شبابية تساهم في تشكيل جبهة عريضة شبابية من كل مكونات المجتمع الفلسطيني للضغط والمطالبة بتشكيل لجنة موسعة لإصلاح وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وتعزيز البعد الشعبي بمبادرته وقيادته الشابة للعمل على تعزيز حملات التضامن الدولية والتي نجح الشباب من خلالها في كسر السردية للرواية الصهيونية، وتصحيح الوعي بالرواية الفلسطينية للصراع.
- فتح حوارات بين الشباب والأجيال الأكبر، للوقوف على حالة القطعية التي عاشها الشباب مع الحركة السياسية وفتح جلسات نقاشية برؤية نقدية لعمل الحركة السياسية الفلسطينية، وربطها بمحطات تاريخية ترصد التحولات الحاصلة ما قبل وما بعد أوسلو، مع أهمية تقييم تلك المراحل برؤية نقدية.
- تفعيل العمل الشبابي المساهم في خلق مبادرات وحراكات مجتمعية لإحياء المناسبات الوطنية برؤية ناقدة، كتلك التي تتبنى وتشكل حالة اشتباك مع المستعمر، أو حالة اشتباك في حقوق محلية اقتصادية واجتماعية وسياسية، وتوثيق تلك النماذج الشبابية الفاعلة لبناء حالة وعي مستلة من تلك التجارب، من شأنها أن تؤسس لفعل شبابي جمعي لاحقاً.
- 4- دفع الشبكات الاجتماعية الموجودة والتشكيلات الشبابية القائمة وغيرها لتوحيد الأهداف الجمعية بجهد اشتباكي يبني على ثقافة التحرر من الاستعمار.
- تشكيل شبكة قيادية بين الحراكات الشبابية المختلفة في كافة أماكن التواجد الفلسطيني، بحيث تكون لديها القدرة على إشهار رؤية موحدة لما هو ممكن في الحالة الفلسطينية.
إن تحقيق هذه العناصر كفيلة بأن تحول الهبة الحالية لحالة اشتباك دائمة مع المستعمِر وحراك اجتماعي مستدام يجعل الكل الفلسطيني أقرب إلى الحرية والانعتاق وتقرير المصير. مما يستدعي بلورة رؤية استراتيجية للعمل الشبابي على الصعيدين الاجتماعي والوطني يأتي في صلبها بحث امكانية بلورة صيغة تعددية جامعة تعكس ارادة التيار العريض في المجتمع الفلسطيني والتجمعات الفلسطينية في بلدان الشتات.
مراجع الورقة:
- جميل هلال: “الهوية والثقافة الوطنية وتفكك الحقل السياسي الفلسطيني”،2016، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية، مسارات، https://www.masarat.ps/article
- الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني: ” الاحصاء الفلسطيني يستعرض أوضاع الشباب في المجتمع الفلسطيني بمناسبة اليوم العالمي للشباب”، 2019، http://www.pcbs.gov.ps/postar.aspx?lang=ar&ItemID=3529
- أيمن عبد المجيد: ” الشباب الفلسطينيون: الهوية والمشاركة والمكان”،2020، معهد دراسات التنمية-جامعة بيرزيت، وهيئة الأصدقاء الأمريكية الكويكرز.
- لجنة الانتخابات المركزية: “احصائيات وأرقام حول القوائم الانتخابية”2020، https://www.elections.ps/tabid/1140/language/ar-PS/Default.aspx
- 5- جميل هلال : ” الشباب الفلسطيني المصير الوطني ومتطلبات التغيير”، 2016، مؤسسة الأرض للأبحاث والدراسات السياسية.
- أحمد عزم: ”الشباب الفلسطيني من الحركة إلى الحراك ( 1908 – 2018 )”، 2019، المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية، مسارات،