جمال زقوت
اذا اتفقنا أن الأسباب الكامنة وراء الأزمة المستعصية للحركة الوطنية وما يرافقها من فشل استراتيجي مزمن، تصاحبه حالة تفكك وعزلة لمختلف أطراف هذه الحركة مع الحالة الشعبية؛ تتمثل أساسًا في فشل برامج واستراتيجيات عمل القوتين المُهيمِنتَين على المشهد العام، وإصرارهما حد التمسك بالانقسام الجغرافي وليس مجرد الانقسام السياسي الذي سبق وعاشته منظمة التحرير وتمكنت إلى حدٍ ما من التعامل معه واحتوائه قبل نشوء السلطة الوطنية؛ فإن المدخل الحقيقي لمعالجة هذه الأزمة يتمثل في تقديم رؤية بديلة مدخلها الأول يتمثل بتوقف قُطْبَي الأزمة عن محاولة اعتبار استراتيجيته المتعثرة، إن لم يُرِد الإقرار الانتقالي بفشلها، لا تشكل أساسًا لإقرار الآخرين بها. إن هذا يستدعي أن تتبنى قوى المجتمع الناهضة مقاربة جادة وموضوعية قادرة على استقطاب الفئات الواسعة من المجتمع والتي تشكل الأغلبية المتضررة من واقع تفتت وانقسام الحركة الوطنية والسلطتان اللتان تحتكران القرارات وتتحكمان بمقدّرات البلد.
تيار ثالث أم مجرد أغلبية شعبية رافضة؟
إن الاستحقاق الأول لإعادة بناء الحركة الوطنية يعني بالضرورة العمل الجاد مع الأغلبية الشعبية المتضررة من واقع الحال المتآكل و الانقسامي، و ما يتطلبه من انفتاح على مختلف القطاعات الاجتماعية والسياسية والفكرية المستعدة للانخراط في إعادة بناء موازين القوى في المجتمع الفلسطيني بتنظيم طاقات الأغلبية الشعبية المتضررة وتحولها تدريجيًا وفي سياق رؤية واقعية لتيار ثالث بديل لحالة التشرذم والانقسام ويفرض بإرادة المجتمع وموازين القوى الناشئة على الطرفين المحتكرين للمشهد الوطني رؤيته البديلة التي يجب ألا تستهدف إلغاء الآخر بل توحد الجميع في إطار جبهوي قائم على تعددية الرؤى ووحدة العمل بما يُتفق أو يتم التوافق عليه، ويستمر الحوار على ما هو مختلف عليه وإيجاد سبل للتعايش مع الاختلاف كعنصر قوة تنظمه قيادة موحدة تنبذ الإقصاء والتهميش والاستفراد. بهذا تقدم قوى المجتمع الحية والناهضة دورها كمُوحّد للحركة الوطنية الجديدة، فبدون وحدتها، سيما في مواجهة الاحتلال، سيستمر تآكل دورها ويتلاشى مبرر وجودها كما هو حاصل اليوم. إن الإصرار على أن استعادة الوحدة يتطلب الاتفاق على كل شيء، هو دعوة غير مباشرة لاستمرار حالة الانقسام، أو على الأقل إطالة أمده، ومعه ليس فقط إطالة أمد معاناة الناس، بل ومنح الاحتلال كل الوقت اللازم لاستكمال مخططات التهويد ومحاولات تفتيت القضية الفلسطينية، هذا بالإضافة إلى أن مثل هذه الدعوات الطوباوية هي في الواقع تتناقض مع الحاجة لبناء ائتلاف جبهوي ديمقراطي يكرس التعددية في إطار وحدة العمل والقيادة، وليعذر كل منا الآخر بما هو مختلف عليه شريطة ألا يتحول للميدان الذي يشكل القاعدة الأساسية للنضال الوطني الموحد ضد الاحتلال، أو التنافس الديمقراطي في الرؤى والبرامج الاجتماعية وسبل خدمة القطاعات الشعبية والدفاع عن مصالحها وقضاياها المعيشية.
بناء النخبة أم النهوض من القاعدة الشعبية؟
لقد أكدت معظم، إن لم يكن جميع، محاولات بلورة ما يمكن تسميته بالتيار الديمقراطي أو التيار الثالث، أن مجرد الاعتقاد بتجميع الفصائل التي تطلق على نفسها ديمقراطية يشكل مدخلًا لبناء هذا التيار، هو اعتقاد خاطئ؛ وقد ثبت فشله تمامًا في كل المحاولات السابقة، فمظاهر العزلة الشعبية وتحكم النخبة بمقدرات وقرارات هذه الفصائل هي ذات الأعراض التي تعيشها القوى المهيمنة على المشهد وهي جزء لا يتجزأ من هذه الأزمة، بما في ذلك اعتقادها الدائم بمقولة “ثبت صحة توجهاتنا” التي ترددها قيادات هذه الفصائل وعنادها المزمن في رفض ممارسة النقد الذاتي أو التنحي لتمكين القيادات الشابة والمحترفة في احتياجات المجتمع من أخذ دورها؛ الأمر الذي جعل من المهاجرين من هذه الفصائل والأحزاب أضعاف مضاعفة قياسًا بالمتبقّين في صفوفها.
كما أن قيام بعض الأفراد بمحاولة استبدال هذه التجارب بشبيهاتها على أساس الاعتقاد بأنها تحمل القدرة الشمولية، وتُنصّب نفسها لتوزيع تقييمات بمدى وطنية أو عدم وطنية أو ديمقراطية وعدم ديمقراطية هذا أو ذاك من الفاعلين في المجتمع، وركوب موجات الحراكات دون القدرة على الإسهام في حوار فكري جدي لوضع مثل تلك التابوهات المعرقلة جانبًا، وفتح الأبواب لأوسع عملية نهوض اجتماعية من أدنى إلى أعلى، وما يتطلبه ذلك من انفتاح جاد على الأغلبية المتضررة من حال السلطتين في المجتمع ، بما في ذلك داخل حركة فتح نفسها، والذين ربما يعانون من التهميش والإقصاء بما لا يقل عن باقي أفراد المجتمع، وكذلك داخل التيار الوطني الإسلامي الذي بات قطاعات مهمة فيه تتململ وتضجّ من هيمنة وفشل حركة حماس في إدارتها للقطاع بسياسة القبضة الأمنية والحديدية وتسلطها على حياة الناس فيه.
الأولوية للشباب والمرأة والنقابات العمالية والمهنية والمدافعين عن حرية الرأي والإبداع
إن مدخل إعادة بناء الحركة الوطنية يقتضي معالجة جدية لمفهوم ودور الحراكات الشبابية والنسوية والاجتماعية الأخرى، والعمل معها لتمكينها من بلورة استراتيجيات تنقلها من حالة الرفض للواقع لقوة اجتماعية مؤثرة قادرة على الإسهام الفعلي بالتغيير المطلوب؛ فهذه القوى الاجتماعية المتضررة والناهضة بحكم اتساعها وطبيعتها ما زالت، ورغم إقدامها وشجاعتها، تُراوح في طيف القوى الاجتماعية التي تعرف ماذا ترفض، ولكنها لم تبذل من الجهد ما يكفي لتحديد أولويات ماذا تريد، وبما يمكّنها من بلورة استراتيجيات عمل ملموسة جوهرها توحيد في إطار تعددي لهذه الحراكات ربما في إطار حركات اجتماعية شبابية أو نسوية بتوجهات سياسية وطنية وتقدمية اجتماعية كمكون جوهري بدونه، ودون العمل الجاد لتفعيل دور النقابات العمالية والمهنية على أساس الدفاع عن حقوق ومصالح القطاعات التي تمثلها، وليس الفصائل التي تهيمن عليه، ستظل كل مقولات تجديد أو إعادة بناء الحركة الوطنية مجرد لغو وتمنيات، لا تخلو من محاولات خفية لتكريس أدوار فردية زعاماتية أثبتت فشلها، بل، فإن محاولات تكريسها مجددًا في الحياة العامة سيجدد الأزمة وليس الحركة الوطنية المطلوب إنقاذها من تلك الأزمة البنيوية المتفاقمة. والمحزن أن بعض هؤلاء هم الأكثر قسوة وربما استعداء لأي مبادرات جادة تحاول الإسهام سواء في تفكيك الأزمة الوطنية العامة كما هو حال بعض المبادرات التي ذكرتها في سياق هذه المقالات، أو البدء بتنظيم عمل جدي للدفاع عن التراث الثقافي وحرية الرأي والتعبير والربط الملموس بين الحقوق المدنية سواء الاجتماعية منها أو الثقافية أو الاقتصادية مع الحقوق الوطنية، كما حدث مع الحراك من أجل الوطن والعدالة والديمقراطية “وعد” حيث توحدت موضوعيًا الجهات الرافضة لكل بادرة تجديد جدية لتشويهها ومحاولة إسقاطها!
وحدة الشعب ضمان وحدة الحقوق وشمولية التمثيل.
إن أي محاولة للتعامل مع إعادة بناء الحركة الوطنية ولكي يكتب لها إمكانية النجاح يجب أن تنطلق من وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، والإقلاع، مرة وإلى الأبد، وكأن الشعب يتواجد فقط حيث مركز الهيمنة على القرار؛ مرة في الخارج مع ضعف الاكتراث بالداخل، وأخرى في مناطق السلطة مع تهميش تجمعات شعبنا في الشتات وداخل الخط الأخضر، هذا بالضرورة يستدعي التمسك بحق العودة والإصرار على الحق في تقرير المصير لشعبنا في كافة أماكن تواجده. كما أنه يستدعي التوقف عن اللهاث وراء المفاوضات، دون تصويب جوهري لمرجعيتها بإقرار اسرائيل المسبق ومعها الولايات المتحدة بحقوق شعبنا الوطنية ،’ أو الاعتقاد بأن عسكرة مقاومة الاحتلال هي السبيل الوحيد لإنهائه وإهمال دور المجتمع والحركة الشعبية في هذه العملية، وكذلك احتياجاتها لإدارة معركة طويلة الأمد تتطلب وسائل نضالية فاعلة تتناسب مع قدرة الناس على تحمل نتائجها وأعبائها وما يستدعيه ذلك من حرص على التوزيع عادل لتحمل هذه الأعباء ، وبكل ما يتطلبه هذا النهوض بهذا الجهد من ضرورة اقامة حكومة وحدة وطنية قادرة على توحيد البلاد، و أن ترعى بعدل مصالح العباد .