بقلم جمال زقوت
ما جرى ويجري في ساحات الأقصى وبوابة القيامة وأزقة القدس العتيقة، من هبة البوابات التي أعادت مجددًا عبقرية الإنسان الفلسطيني إلى اليوم، فإنه يتجاوز مجرد كونه هبة لمواجهة محاولات استكمال تهويد المدينة المقدسة بفرض التقسيم الزماني والمكاني للحرم القدسي، بل يكاد يشي بملامح انتفاضة مختلفة مع الاحتلال، ليس فقط على مستقبل الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية والقدس ذاتها فحسب، بل على مستقبل القضية الفلسطينية التي يتوهم بينيت ومن قبله نتنياهو أنها باتت في متناول التصفية السياسية، و دفعها إلى أسفل أو حتى خارج اهتمامات الرأي العام الدولي والإقليمي والعربي، ومؤشرات نجاحه في إنهاك وربما تطويع الرسمية الفلسطينية، ونزع قدرتها على الذود عنها، ذلك كله تمهيدًا لمخططات التصفية التي تعمل إسرائيل عليها منذ نشأتها.
صحيح أن الانتفاضة الكبرى عام 1987 كانت قد اندلعت شرارتها الأولى بمقتل العمال الفلسطينيين الأربعة على يد مستوطن سائق شاحنة شمال قطاع غزة، ثم انتشرت نيرانها من مخيم جباليا في القطاع إلى كل فلسطين المحتلة وكافة تجمعات الشتات، إلا أن بروڤات تلك الانتفاضة كانت قد بدأت في ساحات القدس والأقصى منذ عام 1982 فانفجرت عندما فاضت القطرة الأخيرة خارج الكأس الممتلئ بحدة الاستقطاب وتطلعات الشعب الفلسطيني وعنجهية الاحتلال، كما أن الانتفاضة الثانية والتي عرفت بانتفاضة الأقصى، كانت الجواب المباشر على اللعبة الإسرائيلية التي قادها إيهود باراك في كامب ديفيد، والتي كشفت بصورة لا تقبل الجدل أنه ليس في جعبة النظام السياسي الإسرائيلي سوى مخططات منع الفلسطينيين من ممارسة حقهم في تقرير مصيرهم، حيث أعلن باراك نفسه يومها، أنه ذهب إلى كامب ديفيد “لنزع القناع عن وجه عرفات”، وليس للتوصل لتسوية سياسية معه، ممهدًا بذلك لنظرية اللاشريك، والسماح لشارون باقتحام ساحات الأقصى، تمهيدًا لدفع الصراع من أخطر أبوابه وأكثرها حساسية، وإيذانًا بتدمير التسوية السياسية ومعها أوسلو والبدء بتدمير إمكانية تحوُّل السلطة الوطنية إلى دولة، والتي كان مضمونها محل الصراع في كامب ديفيد، والمضي بعملية تحويلها إلى ما هي عليه اليوم، لا تملك من أمرها أيًا من عناصر القوة التي تمكنها من الإقلاع نحو الاستقلال والسيادة، سواء لجهة طبيعة ومدى تأثير قاعدتها الاجتماعية التي تنحصر تدريجيًا، وغياب الدور الملموس في تعزيز الصمود عن جوهر برنامجها وبنيتها، واقتصار دورها وأولويتها على الحاجة لمجرد البقاء وتعزيز بنية وعقيدة المؤسسسة الأمنية وجدارة الوكالة الحصرية للعلاقة في علاقتها مع حكومة الاحتلال، أو بفعل الانقسام الذي يتعمق يوميًا منذ انقلاب حماس على السلطة، والذي شكل ضربة استراتيجية كبرى للمشروع الوطني، حيث اعتبره شمعون بيريز الإنجاز التاريخي الأهم لدولة اسرائيل بعد انشائها إثر نكبة فلسطين عام 1948.
نظرة معمقة لنتائج التطورات السياسية تشير إلى أنه إذا كانت إسرائيل التي وُضعت في مأزق تاريخي أمام قوة لهيب الانتفاضة الأولى وقدرتها على استعادة مكانة القضية الفلسطينية دوليً وعربيًا، وحتى داخل اسرائيل نفسها، وبعد أن كانت عاجزة عن كسرها، فقد نجحت أي إسرائيل باحتواء أهميتها الاستراتيجية من خلال أوسلو الذي جعل من قضية القدس، ومعها القضايا الجوهرية مكونات القضية الفلسطينية، قضية مؤجلة، وبدأت بالتخطيط لاحتواء المخرجات الأساسية لهذا الاتفاق على علّاته، وهي بعض الأرض التي انكفأ الاحتلال المباشر عنها، أو مركزية السلطة باعتبارها قد تشكل بوابة الدولة، وكلنا يتذكر كيف امتنعت إسرائيل عن تنفيذ مجرد “الانسحاب” أو إعادة الانتشار من بلدات محيط القدس رغم مصادقة حتى الكنيست على ذلك، وامتناعها عن تنفيذ استحقاقات ما سمي بالمرحلة الانتقالية الأخرى، فكان فخ ستوكهولم ومن ثم فشل كامب ديڤيد، حيث انفجرت الانتفاضة الثانية التي نجحت إسرائيل في محصلتها، ليس فقط في إعادة الاحتلال المباشر لمدن الضفة الغربية، والتخلص من مستوطنات قطاع غزة التي سبق ووصفها شلومو چازيت بأطواق أوسلو، تمهيدًا لدفع القطاع في أحضان حماس، أي تمزيق نواة الكيانية الفلسطينية على الأرض، ومنع إمكانية تحول السلطة التي باتت منقسمة إلى كيانية دولانية، وما يتطلبه ذلك من إضعاف متدرج لسلطة الضفة المتناحرة مع سلطة حماس في غزة، والاستفراد بكلتيهما لانهاكهما، واحتواء ليس فقط سلطتيهما، بل ومحاولة احتواء القضية الفلسطينية برمتها.
اليوم في ساحات الأقصى وبوابة القيامة، يعود المشهد عاريًا على حقيقته؛ شعب صقلته التجربة كي يتصرف فقط ببوصلة الوطن ورايته، وبأولوية مواجهة الاحتلال، بعيدًا عن صراع أهل السلطة المنقسمة على نفسها، ونفض أثقال حالة اليأس الانتظارية إزاء إمكانية أن يعودوا إلى صواب سكة الوطن ومتطلبات الوحدة، بل لعل تلك البوصلة الكفاحية التي يمتشقها أهل القدس ومعهم الأغلبية الكاسحة من الشعب الفلسطيني وأحرار العالم، تعيد ما بقي حيًا وغير ملوثًا بوباء الصراع على السلطة على حساب الصراع مع المحتل، إلى الخندق الموحد في الطريق نحو الحرية؛ وليس أهم من القدس ومقدساتها لتكون البوابة وخندق الالتحاق بالوطنية الجامعة في ميدان الكفاح تمهيدًا لإعادة بناء مؤسسات تلك الوطنية الجامعة ممثلةً بمنظمة التحرير الفلسطينية، بإعادة الاعتبار لطابعها الإئتلافي ودورها في قيادة عملية التحرر الوطني كأولوية عليا للشعب الفلسطيني، وفي نفس الوقت تحرير السلطة من دهاليز ومصالح الانقسام الفئوية، وتصويب بنيتها ووظيفتها كرافعة لتعزيز الصمود في معركة التحرر الوطني.
إذا كان المهيمنين على المشهد قد استخدموا القدس كذريعة لوقف العملية الديمقراطية التي كان يمكن أن تكون بوابة لاستعادة الوحدة، فالشعب الفلسطيني، كما يبدو بفطرة غريزة البقاء، وخاصة المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لم يبقَ أمامهم خيار سوى تحرير إرادة الناس واستعادة وحدتها في صلب معركة التحرر الوطني ومفتاحها القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية وتحويل الصراع الجاري في مواجهة مخططات الاحتلال لإحكام سيطرته على هذه المقدسات لاستكمال تغيير الطابع الجغرافي والتاريخي والديني للمدينة المقدسة وإرثها الحضاري المتنوع والحاضن لحرية الأديان والثقافات والإبداعات بكل صنوفها المعمارية والفكرية والفنية؛ إلى مضمون وجوهر هذا الصراع متمثلًا بدحر الاحتلال وانتزاع الحق الطبيعي في تقرير المصير.
إن من يدقق بالمشهد المهيب الذي يظهر تراجع جنود الاحتلال أمام قوة الإرادة والوحدة‘ وقوة روح المقاومة السلمية اللامتناهية التي جسدتها مسيرة بوابة توأم القدس، مدينة بيت لحم؛ عليه أن يقرأ عنوان وطبيعة بداية المرحلة التي تنهض من ركام الإحباط والانقسام الفلسطينيين، والوهم الإسرائيلي بإمكانية هزيمة الفلسطيني، نحو انتفاضة متجددة وجارفة ليست بعيدة، وغير قابلة للاحتواء كما حصل في أوسلو أو الانكسار والانقسام كما حصل بعد كامب ديفيد. فالفلسطينيون يتعلمون من تجربتهم، وإن كانوا يدفعون خلالها أثمانًا باهظة من لحم قضيتهم الحي على ضفتي الانقسام وانزلاقات مجرى الحرية الذي لا يمكن التخلي عنه أو المساومة عليه.