أكرم عطا الله
كيف لأمة لديها كل هذا التراث الحضاري والإنساني أن تقف في شدة ضعفها مكشوفة أمام دوران الأرض دورتها السنوية، وهي تبدو على عتبة العام الجديد بلا جديد سوى التلَفُت باندهاشة لموازين قوى تتحرك وتتبدل وتعيد توزيع نفسها على الخريطة بينها، وارتضت الأمة العربية أن تكون متفرجا خارج الحلبة، بل وأسوأ، استسلمت لقدرها دون التفكير بقدراتها الممتدة على هذه الجغرافيا الواسعة.
مع نهاية عام وبداية آخر، تكون محطة جديدة تفتح الدول والشعوب دفتر يومياتها، تعيد قراءة مذكراتها لتعرف ماذا أنجزت في العام السابق، أين تعثرت. تقف أمام الماضي وفوقه لتنطلق للمستقبل وسط سباق لا تتوقف صافرات إنذاره عن إحصاء إنجازات وتتويج أبطال وابتكارات وعلوم باتت تقطع الزمن في لمحة، فيما ما زال العربي واقفا على طرف الصحراء خارج هذا كله، وآخره تصنيف التعليم، حيث جاءت الدول العربية كعادتها في ذيل القائمة مع نهاية العام.
لا يفترض أن يُصدم أحد حين يتم تصنيفنا في آخر أي شيء، لأن أي شيء هو جزء من واقع وتاريخ ومناخات وارث تراكم أو انقطع مستمدا راهنه من تجربة كان العربي وما زال يخوض فيها صراع القبائل ولا يتطلع إلى خارج تلك الجغرافيا منافسا لذاته ويأكل نفسه بلا رحمة كأن التاريخ توقف عند عصر الجاهلية وصراعات القبيلة.
على عتبة عام جديد، يبدو العالم على رقعة شطرنج تتحرك فيها البيادق والأحصنة والقلاع والملوك، كل يبحث لنفسه عن مكان يحفره بذكاء وقوة مسلحا بكل ما يملك من قوة وأبرزها قوة العلم التي كانت وما زالت فخر الأمم في عالم لم يتوقف عن الجري منذ فجر التاريخ، كلٌ يستدعي ما يملك من قوة وأربطة خيول باحثا عن مكان ومكانة في هذا العالم ومحاولا أن يتسلق القمة بالثقافة والعلم والجيوش حين يستدعي الأمر، وبتجربة تبدأ من باطن الأرض وتمتد لسطح القمر وما بينهما من فضاء عبأته أدخنة ورذاذ الأوبئة.
العلم الذي لم يعد جزءا من أولويات أو اهتمامات العرب ولا تشي بمستواه التصنيفات التي تعيد تأكيد مكانة العرب الثابتة في قاع السلم ولا موازنات البحث العلمي الفقيرة والتي تستولي عليها منظومات أمن أعجز من أن تصمد أمام أصغر تحدٍ، بل بانعدام المساهمة في الابتكارات الإنسانية أو تقديم شيء للبشرية. وكانت أزمة وباء كورونا ذروة الانكشاف حين لم يكن دور العرب بجامعاتهم ومراكزهم العلمية ليس أكثر من انتظار لقاح يكتشفه غيرهم.
على عتبة العام، تستعيد روسيا دورها الامبراطوري متسلحة بإرث قوة هائلة كانت تصنع التاريخ في الحرب العالمية الثانية، وارث «يوري غاغارين» وهو يدور في الفضاء قبل أكثر من ستة عقود، وعلى عتبة العام، تنزع الصين قفازات الحرير متحدية أكبر امبراطورية سادت الكون منفردة لثلاثة عقود، حيث تتسلح بكين بالعلم والقوة العسكرية، وعلى عتبة العام، تبدو إسرائيل في ذروة عنجهيتها وهي تدخل متحررة من وطأة محاولات السلام، وعلى عتبة العام، تبدو إيران التي تتمدد وتتحضر لاتفاق مع القوى العظمى لتستمر، وعلى عتبة العام، يقف العرب بلا عزاء.
على عتبة العام، تتربع كوريا الجنوبية على رأس هرم التعليم والعلم، وهي الدولة التي جاءت في ستينيات القرن الماضي باحثة لدى العرب في علم صناعة السيارات لتصبح بعد عقود واحدة من أهم دول صناعتها فيما لم يعد للعرب علاقة بالصناعة بما فيها السلاح الذي حصدوا به أنفسهم على امتداد عقد مضى، وأكثره كان مستوردا ودفعوا فيه ما يمكن أن يُحدِث أكبر من تنمية ونهضة كانت من الممكن أن تضع أقدامهم على الأرض لو تم صرفه للتعليم والجامعات والفكر والثقافة ومراكز الأبحاث.
والمفارقة الصارخة في العالم العربي والتي تعكس ليس فقط راهنهم الفقير بل وتظلل مستقبلهم بغيمة سوداء تتجلى عندما تستقطب دول منها وتعطي جوازات سفر وإقامات للراقصات والمغنين ولاعبي الكرة فيما يصاب علماء العرب بالهزيمة باحثين عن مكان ومكانة لهم خارج العالم العربي، بينما الولايات المتحدة تجنس الأذكياء وتختارهم بمهرة من كل العالم، تصوروا لو وقفت أنجيلا ميركل ذات يوم تعطي إقامة لراقصة أو مغنية ؟…! ولكنها أعطت هذا الغطاء لمئات الهاربين العرب من بطش العرب عندما أغلقت في وجوههم دول ومدن العرب.
لا أحد في العالم العربي يتوقف أمام دورة الأرض ليسأل كيف يمكن أن يعيد العرب موضعة أنفسهم في هذا العالم المتحرك شديد السرعة وشديد القسوة، ولا أحد يسأل كيف يمكن ألا يتصارع هذا العالم بنا وعلى أرضنا وبأموالنا التي تبدو كأنها مشاع لصراعات الدول الكبرى التي تحارب كل شيء من أجل أبنائها، فيما يغرق أبناء العرب في الفقر وغموض المستقبل هاربين من أوطانهم بسبب الجوع أو متخمين حد البلادة والإذعان.
صواريخ فرط صوتية، وحروب المستقبل بأشعة الليزر والتكنولوجيا عمودها الفقري وأساسها كل هذا وغيره هو نتاج العلم والاختراعات، فالقوة العسكرية لم تعد تخص السيف والإرادة بل تستمد ممكناتها من العلم، وهو ليس إبداعا مستقلا في المجتمعات بل هو انعكاس طبيعي للثقافة والاقتصاد والحريات والبنى السياسية والدولة الحديثة، وكل تلك تتفاعل في بيئة محددة لتنتج مجد القوة. وليس مصادفة أن نصيب كل جندي اسرائيلي من الجيوش العربية 50 عسكريا منهم رتب فريق وجنرال وعمداء وضباط ولا توازن في ظل دول القبيلة التي تعيش صراعاتها وسط أمة انهزم فيها العلم مبكرا لصالح الخرافة ونظام الولاء والقبيلة.
ندخل العام الجديد كما قبله انتظارا لمعجزة تأتي من السماء، أو نتأهب لمشاهدة عالم يعيد توزيع موازين القوة، ولا سبيل لنا سوى الاكتفاء بمشاهدة الأمر كأنه واحد من أفلام هوليوود فيما تملك هذه الأمة من مقومات النهضة ما لا تملكه مناطق أخرى. فأين الخلل الذي يضعنا دوما مع بداية كل عام في نهاية أو آخر كل الأشياء؟ دولة القبيلة وحزب القبيلة وعقل القبيلة المتصادم قطعا مع الدولة الحديثة…!