على الجرباوي:
من الضروري الانتباه إلى أن القرار الذي اتخذه حزب الليكود قبل أيام بشأن مستقبل الضفة لا يعني على الإطلاق، كما فهم البعض وتداول، ضمها وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، وإنما ضمها وفرض هذه السيادة فيها. وفي التفريق بين الأمرين اختلاف كبير، وهنا يكمن الجوهر في الموضوع.
حزب الليكود، كما غيره من الأحزاب الإسرائيلية اليمينية، يرفض التوصل إلى تسوية سياسيه مع الفلسطينيين على أساس الانسحاب إلى حدود العام 1967، وإقامة دولة فلسطينية وفق “حل الدولتين”. فهو يريد الاحتفاظ بكل أرض فلسطين، من النهر إلى البحر. ولكن بالقدر ذاته، وربما بمقدار أكبر، يرفض هذا الحزب انجرار الأمور إلى درجة الاضطرار لقبول استيعاب الفلسطينيين الموجودين في الأرض المحتلة في “دولة واحدة”. فهذا إن حصل، يشكل وفقاً لهذا الحزب، حالة انتحار ذاتي لإسرائيل وإنهاءً لوجودها لصالح الديموغرافيا الفلسطينية المتزايدة.
حزب الليكود يريد الأرض، القدس والضفة تحديداً، ولكن لا يريد من عليها. الحالة الأمثل لتحقيق ذلك هو تفريغ هذه الأرض من أهلها، وضمها بعد ذلك لإسرائيل. أما إن تعذرت إمكانية التفريغ، لكثرة الفلسطينيين وصعوبة تحقق عملية طردهم جماعياً من وطنهم، فإن ثاني أفضل الخيارات بالنسبة للحزب، يتمثل بالضم الانتقائي لأكبر نسبة من هذه الأرض، بشرط استيعاب أقل عدد من الفلسطينيين معها. فضم الأرض كاملة، بما عليها من فلسطينيين، يُشرّع الباب على مصراعيه لتشكيل الدولة الواحدة، وهذا ما لا يمكن للحزب أن يقبله، أو يقوم بتسهيل حصوله.
من هنا جاء القرار، والذي حظي بإجماع أعضاء مركز الحزب، ملتبس الصياغة، فضفاضاً وعاماً، ويحتمل ما يلزم من تأويل عند التطبيق. فالقرار ينصّ على أنه “في الذكرى الخمسين لتحرير يهودا والسامرة، بما فيها القدس، عاصمتنا الأبدية، تدعو اللجنة المركزية لليكود قيادات الليكود المنتخبة للعمل من أجل السماح بالبناء الحرّ، وتطبيق قوانين إسرائيل وسيادتها على مجمل المجال الاستيطاني المحرر في يهودا والسامرة”. من هذه الصياغة يمكن أن يُفهم أن الهدف العام الواجب تحقيقه عندما تتوفر الظروف الملائمة، والذي لم يتم التنازل عنه، هو ضم وفرض السيادة الإسرائيلية على مجمل الضفة “المحررة”. ولكن، بقراءة متأنية أخرى، يمكن الاستنتاج أن هذا الهدف العام خاضع للتنفيذ المرحلي لما هو متاح حالياً، ابتداءً من الضم وفرض السيادة الآن على المناطق التي تم استيطانها في الضفة.
وبالتالي، فإن المنطقة المصنفة (ج) القليلة الفلسطينيين، والتي تضم حوالى 62% من مساحة الضفة، وجميع المستوطنات، تُصبح هي المرشحة حالياً لمطلب الضم وفرض السيادة الإسرائيلية. ويتقاطع هدف حزب الليكود هذا مع برنامج حزب البيت اليهودي بزعامة نفتالي بينيت، والذي يُطالب منذ فترة طويلة بضرورة القيام بهذا الضم. وكذلك الأمر مع حزب إسرائيل بيتنا بزعامة أفيغدور ليبرمان. ولذلك سارع الحزبان لإعلان تأييدهما لقرار مركز حزب الليكود، واستعدادهما للتصويت الإيجابي على موضوع الضم في الكنيست عندما يتم طرحه.
مع أن قرار الليكود يُعتبر قراراً حزبياً غير ملزم للحكومة، ولا يحمل الآن أي أثر قانوني، إلا أنه لا يجوز الاستهانة به فلسطينياً، وعدم أخذ الرسالة التي يحملها محمل الجد. على العكس، مع هذا القرار نصبح أمام اتفاق عام عند اليمين الإسرائيلي بعدم التنازل عن القدس المضمومة والضفة، والشروع بضم الأجزاء من الضفة التي تتناسب مع الهدف الصهيوني بتوسيع الدولة اليهودية، (أرض أكثر وفلسطينيون أقل). ومن التجارب السابقة، علينا أن نتوقع أن ما يتم تداول أفكار بشأنه اليوم في الأوساط السياسية الإسرائيلية، يصبح على الأغلب واقعاً بعد حين. وعلينا أن نتذكر أنّ في البيت الأبيض حالياً إدارة موالية تماماً لإسرائيل، وأن الدعم العربي التقليدي للقضية الفلسطينية لم يعد جليّاً، أو مضموناً.
باختصار، نحن الآن نواجه إمكانية حقيقية، تقوى وتتنامى، داخل إسرائيل للقيام بضم المنطقة (ج) من الضفة وفرض السيادة عليها، وترك “البقايا” الكنتونية المتفرقة لتصبح معازل لعيش الفلسطينيين تحت السيطرة الدائمة، وليس السيادة، الإسرائيلية. وبالتالي، تحقق إسرائيل أفضل ما يمكنها تحقيقه في ضوء استمرار وجود ملايين الفلسطينيين داخل فلسطين. فهي، من ناحية، لن تتنازل سوى عن قطاع غزة الذي لا يمثّل لها أيّ أهمية، بل سيشكّل لها عبئاً مستمراً طالما بقي تحت احتلالها، وبالمقابل ستحتفظ بالقدس والضفة. ومن ناحية أخرى، تقوم من خلال التفريق بين استمرار السيطرة على مناطق بالضفة، وفرض السيادة على مناطق أخرى، بالتخلص من العبء القانوني للغالبية العظمى من فلسطيني الضفة، وذلك لحماية الطابع اليهودي لإسرائيل مستقبلاً. ولكي يتحقق ذلك لا بدّ من وجود جهة أخرى يُناط بها التبعية القانونية للفلسطينيين كي لا تتحملها هي، ويصبح الفلسطينيون مواطنين إسرائيليين يطالبون بحقوقهم السياسية والمدنية. هذه الجهة هي السلطة الفلسطينية.
في ظل معرفة كل ذلك، كيف على الجانب الفلسطيني أن يتصرف إزاء المرتقب من التطورات التي تُفصح عنها الأوساط السياسية الإسرائيلية الآن؟ وما هي الإستراتيجية والإجراءات الفلسطينية الفعلية الواجب اتباعها للحيلولة دون تحوّل المخطط الإسرائيلي اليميني إلى واقع ملموس؟
واضح أن ردود الفعل الفلسطينية على قرار مركز الليكود، والتي توالت خلال الأسبوع الماضي، ليست كافية، ولا ترقى للمستوى المطلوب. فتقليدية إطلاق تصريحات، وإصدار بيانات، الشجب والإدانة والاستنكار، لن تقدم شيئاً يُذكر لمواجهة التحدي الجديد. كما وأن مناشدات المجتمع الدولي للتدخل لكبح جماح إسرائيل لن يكون لها أي نتائج ملموسة على الإطلاق.
أصبحت ردود الفعل الفلسطينية التقليدية على مسلسل الخطوات الإسرائيلية الزاحف على الحقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني متوقعة، وغير فعّالة، أو مؤثرة. ولكي يتغير ذلك، يجب الخروج من نطاق رد الفعل إلى مجال الفعل. ولكي يتحقق ذلك يوجد ضرورة لمراجعة حقيقية لللإستراتيجية الفلسطينية الحالية، واتخاذ قرارات فعلية، وليس فقط شعاراتية.
لبّ الموضوع الذي يجب مواجهته هو منع إسرائيل من التفريق بين الأرض وأهلها، فتضمها دونهم، وتتخلى عنهم دونها. فإما أن تنهي إسرائيل احتلالها لكل الأرض الفلسطينية المحتلة، أو تضم كل هذه الأرض ومن عليها، وتمنح الفلسطينيين المواطنة الإسرائيلية، بما تشتمل عليه من حقوق سياسية ومدنية كاملة. أما الضم الانتقائي لما تريد من أجزاء من أرض الضفة، والتخلي عن مسؤولية تحمّل أعباء الحقوق السياسية والمدنية للفلسطينيين وحشرهم في معازل تحت استمرار السيطرة الأمنية الإسرائيلية عليهم، يجب ألا يكون مقبولاً فلسطينياً.
ولكن القبول الفلسطيني حاصل، كأمر واقع، جراء استمرار وجود السلطة الفلسطينية التي تنيط بها إسرائيل المسؤولية على الفلسطينيين، وتستخدمها للحيلولة أمام مطالبة الفلسطينيين بضمهم لها، وتغيير طابعها اليهودي من خلال التحول إلى “دولة واحدة”. والمفارقة هي، إذن، أن السلطة الفلسطينية ليست قادرة على التحول إلى دولة مستقلة وفق “حل الدولتين”، وتقف عثرة أمام انسياب وضع الاحتلال باتجاه “الدولة الواحدة”.
آن الأوان لأن تأخذ القيادة الفلسطينية هذا الموضوع على محمل الجدّ، فهو اللّب والأساس، وأن تبحث بكل موضوعية الإمكانيات المختلفة، وتجيب عن الأسئلة المركزية: هل يمكن للسلطة أن تتحول إلى دولة مستقلة؟ وإن كان الجواب نعم، فكيف، وما هي الخطوات العملية اللازمة لتحقيق ذلك؟ أما إن كان الجواب بالنفي، فالسؤال يصبح: هل من الضروري الاستمرار بوجود هذه السلطة التي تحشرها ٍإسرائيل، وتقلّص من صلاحياتها، على الأرض، وتعطيها بالمقابل، الصلاحية الكاملة على الفلسطينيين؟ وإلى متى يمكن لهذه السلطة أن تتحمل ذلك، وتقبل به، مع عدم وجود إمكانية لإنهاء الاحتلال وتحولها إلى الدولة المنشودة. وفي حال كان القرار بوجوب استمرار وجود هذه السلطة، بغضّ النظر عمّا تقوم به إسرائيل من إجراءات، يُصبح المطلوب تحديد معالم الإستراتيجية التي يجب أن تحكم عمل هذه السلطة، كي تكون في صُلب المواجهة مع الاحتلال، فتخرج عن نمط استمرار الواقع الانسيابي الحالي لوجودها المستكين للاحتلال.
الآن نحن أمام مفترق حاسم: فإما استخلاص العبرة، وإما استمرار الانزلاق في الحفرة.