جميل هلال
كان من نتائج نكبة العام 1948 تدمير الحقل السياسي الفلسطيني كما تبلور قبل ذلك في الصراع ضد الاستعمارين البريطاني والاستيطاني الصهيوني. ولم يتبلور حقل سياسي فلسطيني جديد إلا بعد سلسلة من الأحداث والتحولات كان أولها اتخاذ قرار عربي بتأليف منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وسبق ذلك بروز أنوية فلسطينية هنا وهناك (اتحاد طلبة فلسطين في القاهرة، ومجموعات مسلحة سرية، تشكيلات للمرأة والكتّاب… الخ)، ولعل هزيمة الدول العربية عام 1967 واحتلال إسرائيل فلسطين كلها، هما اللذان مهدا الميدان لسيطرة فصائل فلسطينية مسلحة (حركة «فتح»، والجبهة الشعبية وغيرهما) على منظمة التحرير الفلسطينية متأثرين بنجاحات حركات التحرر الوطني والتيارات اليسارية في تلك الحقبة (الجزائر، فيتنام، كوبا، حركة طلاب اليسار الجديد في أوروبا الغربية، وغير ذلك). وقد تمثل الحدث الأبرز آنذاك بسيطرة فصائل المقاومة الفلسطينية على منظمة التحرير الفلسطينية عام 1968. وكان لاعتماد المقاومة المسلحة شأن محوري في منح الهوية الوطنية الفلسطينية بعدا مقاوما بعد أن غلب عليها بعد الضحية في اثر النكبة. وتعزز البعد المقاوم بعد معركة الكرامة (21 آذار 1968) وبعد الهزيمة المدوية للدول العربية في حرب الخامس من حزيران 1967. ومع سيطرة فصائل المقاومة على المنظمة جرى تعديل ميثاقها ليسمى الميثاق الوطني (بدلاً من الميثاق القومي). ونص الميثاق على تحرير فلسطين كلها عبر الكفاح المســلح. واعـــتبر النظـــام الأساسي للمنظمة أن جميع الفلسطينيين «أعضاء طبيعيون فيـــها». كـــما نص على أن يتم انتخاب أعضاء المجلس الوطني بالاقتراع المبـــاشر، وحدد مهلة المجلس الوطني بثلاث سنوات، على أن تعقد دورة عادية سنويا. وباختصار فقد شــيدت منظمة التحرير الفلسطينية حقلا سياسيا وطنيا لكن خارج إقليمها الوطني.
المنظمة تهيمن على الحقل السياسي (1974-1982)
ساهم اعتماد الكفاح المسلح وانتماء معظم قيادات المنظمة وفصائلها من الطبقة الوسطى المتعلمة ذات الجذور الشعبية في بناء قاعدة اجتماعية واسعة للمنظمة وللفصائل. وربما ساهم في الاتجاه نفسه كون المنظمة، كمؤسسات وأجهزة ونشاط علني، تشكلت خارج فلسطين التاريخية، حيث وفرت المخيمات القاعدة الاجتماعية الأرحب لفصائلها. كما كان للاتحادات والنقابات القطاعية (المرأة والطلبة والعمال) والمهنية (معلمون وكتاب وصحافيون، وغيرهم) شأن مهم في توسيع هذه القاعدة وتنظيمها إلى حد ما. وكان لليسار دور ملموس خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم في تنظيم القاعدة الشعبية، وخاصة العمال والمرأة، علاوة على الطلبة والشباب، وكان لهذا أثره في توسيع المشاركة الشعبية في الانتفاضة الأولى.
في سنة 1974 صاغت المنظمة البرنامج المرحلي (برنامج النقاط العشر) الذي دعا إلى إقامة سلطة وطنية على أي أرض فلسطينية يتم تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي، وكان ذلك نقطة تحول في موقف المنظمة من برنامج محوره التحرير إلى برنامج محوره إقامة دولة فلسطينية، وهو ما ترسخ لاحقا في إعلان الاستقلال وقرارات المجلس الوطني في العام 1988، وفي إبرام اتفاق أوسلو عام 1993. وقد تقاطعت حيثيات عدة لتوليد هذا التحول ودفعه إلى الاستمرار، من أبرزها تلمس الأثر السلبي لفقدان إقليم وطني كقاعدة للمنظمة وفصائلها، وهو ما أشار إليه تكرار المواجهات العسكرية بين المنظمة والدول العربية، التي أقيمت على أرضها مؤسسات قيادية سياسية وعسكرية وتنظيمية وإعلامية، وتعرض هذه المؤسسات للضغوط السياسية والمالية على غرار مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد التي ضغطت على م.ت.ف. للاستجابة للضغوط الأميركية في شأن الاعتراف بإسرائيل ونبذ العنف، وما شابه. كما ينبغي عدم إغفال تأثير الموقف السياسي للاتحاد السوفياتي (الحليف الدولي الأهم لمنظمة التحرير) في تبني المنظمة برنامج إقامة دولة في حدود 4 حزيران 1967، وتأثير التغيير في ميزان القوى في المنطقة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، والتأثير الكبير لخروج منظمة التحرير من لبنان خلال صيف عام 1982 وتعرض مخيمي صبرا وشاتيلا لمجزرة رهيبة في أيلول من ذلك العام.
نمت في السبعينيات أشكال مختلفة من البقرطة والعسكرة والمركزية الشديدة في داخل مؤسسات المنظمة وفصائلها من حيث الانشغال في بناء قوى عسكرية نظامية وتمويلها وتدريبها وتجهيزها. ونمّى هذه الظواهر الاعتماد الواسع على التمويل الخارجي (النفطي بالأساس) ووفرة هذا التمويل، والتورط في حروب أهلية (في الأردن ولبنان، وسوريا بشكل غير مباشر)، والتأثر بنموذج البنية التنظيمية للأحزاب الشيوعية. ومن المهم هنا التذكير بأن قضية الديمقراطية (بمفهومها الواسع الإجرائي والقيمي) لم تكن تلقى اهتماما كافيا في العالم العربي في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين لأسباب ليس هنا مجال التطرق إليها. كما حجب نظام «الكوتا» (المحاصصة) المعتمد في تشكيل مؤسسات المنظمة حاجة هذه المؤسسات إلى التجديد ودمقرطة وترشيق بنيتها وبنية اتحاداتها وأطرها النقابية وإلى إرساء تقاليد الرقابة والمحاسبة لهيئاتها القيادية.
تراجع المنظمة (1982- 1993)
كان من نتائج إخراج منظمة التحرير من لبنان في سنة 1982 وتشتيت قواها وإبعادها عن فلسطين المحتلة وعن قاعدتها الجماهيرية (المخيمات) تراجع قدرتها التعبوية. وأثر في الاتجاه نفسه الانشقاق الذي شهدته حركة «فتح» عام 1983، والخلاف السياسي الحاد داخل منظمة التحرير في شأن التوجهات والتحالفات السياسية لقيادة المنظمة. ولم يتم تجاوز هذا الخلاف إلا في العام 1987 (في مجلس وطني توحيدي). كما شهدت مرحلة ما بعد الخروج من لبنان حروبا على عدد من المخيمات في لبنان أشغلت المنظمة عن مهماتها في الأراضي المحتلة.
تفجرت الانتفاضة الأولى في أواخر العام 1987 وكانت منظمة التحرير في حالة ضعف وترهل. ولولا تفجر هذه الانتفاضة لاستمر هذا الضعف من دون توقف. والانتفاضة الأولى هي التي أعادت الاعتبار لمكانة منظمة التحرير بعد أن أعلنت القيادة الموحدة للانتفاضة أنها ذراع منظمة التحرير في الأراضي المحتلة عام 1967، وانها تلتزم بتعليمات قيادة المنظمة وتوجيهاتها. وفي الوقت ذاته، أزاحت الانتفاضة مركز ثقل النضال السياسي الفلسطيني من الخارج إلى الداخل، كما أدخلت تجديدا مهما في أشكال النضال الفلسطيني لم يكن من الممكن اعتمادها في الشتات، وهي المتمثلة في المواجهة الشعبية المنظمة للاحتلال وتوليد تضامن فلسطيني شامل مع الانتفاضة. لكن هذه التجربة الثمينة لم تستكمل بفعل تدخل القيادة الفلسطينية البعيدة عن الميدان آنذاك، وبفعل تحولات إقليمية ودولية مدوية (حرب الخليج وانهيار الاتحاد السوفياتي وتدفق أعداد كبيرة من المهاجرين الروس إلى إسرائيل). هذه التحولات أفقدت منظمة التحرير حلفاءها الإقليميين والدوليين ومصادر تمويلها الرئيسة، كما أضعفت سيطرة المنظمة على الحقل السياسي الفلسطيني. وأدى الإحساس بالضعف إلى درجة تشكّل مخاوف لدى القيادة الفلسطينية في الخارج من قيام قيادة بديلة في «الداخل» (الضفة والقطاع). وضاعف الإحساس بالضعف اقتحام قوى جديدة من خارج المنظمة الحقل السياسي الفلسطيني (حركتا «حماس» والجهاد الإسلامي) اللتين باتتا تشكلان تهديدا لقيادة المنظمة ولبرنامجها ولنظرتها العلمانية.
اختفاء المنظمة من الحقل السياسي (1994 وما بعد)
ولّد اتفاق أوسلو تحولا جذريا في تكوين الحقل السياسي الفلسطيني، عبر تحويل القرار السياسي من منظمة التحرير إلى السلطة الفلسطينية (سلطة الحكم الذاتي على أجزاء من الضفة والقطاع). كما ترتب على الاتفاق تهميش دور فلسطينيي الشتات، وإقصاء فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948 عن القرار الوطني. بتعبير آخر جرى تهميش متعمد لمؤسسات المنظمة لمصلحة إبراز مؤسسات السلطة الواقعة تحت سطوة الاحتلال الإسرائيلي. وهذا التحول جرّد الحقل السياسي الفلسطيني من مؤسسته الوطنية الجامعة، وجعله عرضة للتدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية التفصيلية (من قضايا الأمن، إلى الاقتصاد، إلى المواقف السياسية، إلى الشؤون الاجتماعية).
ظهر انكشاف الحقل السياسي بعد التهام السلطة الفلسطينية منظمة التحرير في قيام قيادة السلطة/المنظمة (إذ بات من الصعب التمييز بينهما بعد العام 1994) عام 1996 بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني (وقبل قيام دولة فلسطينية ذات سيادة) بضغط إسرائيلي وأميركي لينسجم مع نصوص اتفاق أوسلو الذي اعترف بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني من دون تحديد مكوناته، ومن دون الاعتراف بحقوقه، لقاء اعتراف المنظمة بحق إسرائيل في الوجود. وهكذا ما عاد القرار السياسي يتم وفقا لمبدأ التوافق الذي ساد، إلى حد كبير، في منظمة التحرير حتى اتفاق أوسلو، بل بات بيد التنظيم «الحاكم» (الممسك بمؤسسات السلطة الفلسطينية)، وبات مألوفا تماما استثناء المعارضة من القيام بدور في صناعة القرار. وساهم هذا التقليد في تثبيت دعائم استقطاب حاد في الحقل السياسي، تعزز بعد إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية عام 1996، وكذلك عامي 2005 و2006 تحت الاحتلال، ومن دون تحديد هدف أو غاية وطنية واضحة لهذه الانتخابات، ومن دون اتفاق على كيفية التعامل مع هذه الانتخابات بما يخدم النضال الوطني التحرري. هذا الاستقطاب ولد منافذ للتدخلات الخارجية في شؤون السلطة (بشقيها).
برز انكشاف الحقل السياسي بعد أوسلو في أكثر من شكل، منها اعتماد السلطة الفلسطينية، منذ تشكيلها، اعتمادا وجوديا على المساعدات الخارجية (الأوروبية والأميركية بشكل رئيس)، والتي لم يتراجع جدول أعمالها السياسي المتمثل في الحفاظ على استمرارية المفاوضات الثنائية بغض النظر عن السياسة الإسرائيلية الممارسة على الأرض. فقد بقي اقتصاد الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 تحت سيطرة إسرائيل من خلال تحكمها في التجارة الخارجية وبالمعابر والموارد الطبيعية (الأراضي والمياه)، وتحكمها بالاستقطاعات الضريبية (المقاصة) لواردات الضفة والقطاع. وساهم في الانكشاف الاقتصادي اعتماد السلطة سياسة اقتصادية ذات توجهات ليبرالية جديدة. كما برز ذلك في فشل السلطة في وقف سياسة إسرائيل القائمة على الاستيطان، وتقييد حركة الفلسطينيين، وبناء جدار الفصل العنصري والطرق الالتفافية، وتوليد بانتوستانات، وفرض نظام فصل عنصري على الفلسطينيين، واستخدام آلتها العسكرية من دون رادع، وكذلك ممارسة العقوبات المالية والاقتصادية والأمنية متى شاءت، وبالشكل الذي تريد، وشن حملات الاعتقال، وغير ذلك.
نحو إعادة بناء المنظمة كمؤسسة جامعة يتمثل المأزق الراهن للحركة السياسية الفلسطينية في فشل المفاوضات الثنائية في التوصل إلى تسوية تتضمن الحدود الدنيا من البرنامج السياسي الوطني لمنظمة التحرير، وفشل بلورة إستراتيجية تتبنى المقاومة الفلسطينية كفعل شمولي يشرك جميع مكونات الشعب الفلسطيني، وهو مأزق مركب. فالحركة السياسية الفلسطينية تفتقر إلى قيادة موحدة، وتفتقر إلى مؤسسات وطنية موحدة وفاعلة ومستندة إلى أسس ديمقراطية تمثيلية، وتصر على اعتماد إستراتيجيات أثبتت عقمها ومحدودية تأثيرها.
وجاء نجاح حصول فلسطين على عضوية كاملة في «اليونسكو»، ليكشف جدوى تحدي الإرادة الأميركية والدخول في مجابهة مع سياسة الاحتلال الإسرائيلي. كما كشف جدوى النضال داخل منظمات الأمم المتحدة في سبيل الحقوق الوطنية. وبرز هذا في خطاب رئيس السلطة الفلسطينية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة طلبا للعضوية الدائمة من حيث مساهمته في توليد العزلة على إسرائيل وفي تعرية ازدواجية معايير الولايات المتحدة المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني وتطلعاته التحررية، وبرز أثر الفعل الذاتي في صفقة تحرير الأسرى الفلسطينيين. لكن هذه النقاط تكتسب جدوى تراكمية إذا ما شكلت جزءا من إستراتيجية يتشابك فيها النضال الدبلوماسي مع السياسي ومــع الجــهد التوحيـــدي الداخـــلي (المصالحة الوطنية) ومع أشكال متنوعة من المقــاومة التي تشرك مكونات الشعب الفلسطيني كله، في داخــل فلســـطين التاريخية وخارجها، وفق شرط وظرف كل مـن هــذه المكونــات.
نحن بحاجة إلى اختراع منظمة تحرير جديدة تقوم على المصالحة الوطنية وعلى إستراتيجية موحدة محورها الرئيسي حق تقرير المصير والعودة، وقادرة على التفاعل مع الانتفاضات الشعبية في العالم العربي في نضالها من أجل الحرية والكرامة الوطنية وفي الخلاص من الاستبداد والفساد، وفهم مدلولات ما يجري في العالم من انتفاضات ضد وحشية النظام الرأسمالي العالمي. وسيكون مطلوبا من منظمة التحرير الجديدة البت في مصير السلطة الفلسطينية التي لا ضرورة لها إن لم تكن أداة في مجابهة الاحتلال، بدلاً من التنسيق الأمني معه. لكن لن تستوي المصالحة الوطنية إن لم تقم على إشراك أوسع القوى السياسية والاجتماعية في فلسطين المحتلة وخارجها في حوار عن أفضل السبل وأسرعها لإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير كمؤسسات وطنية تمثيلية جامعة، ومن أجل صوغ إستراتيجية تفسح في المجال لجميع أشكال النضال المُشرِكة لفئات الشعب الفلسطيني؛ إستراتيجية لا تختزل الشعب الفلسطيني إلى من هو مقيم في الضفة ومن هو في القطاع، ولا التاريخ الفلسطيني الذي لم يبدأ في العام 1967، ولا تشوّه الرواية الفلسطينية بحيث تغيب عنها النكبة وما قبلها وما بعدها، أو تتجاهل التاريخ الغني للمقاومة الفلسطينية للاستعمار والاحتلال والعنصرية والتهميش المــتواصــل منذ أكثر من قرن من الزمن.