جمال زقوت
يبدو أن من قرر الدعوة لإجراء الانتخابات بعد مصادرة حق الناس منها لسنوات طويلة، لم يكن فقط في حالة انقطاع عن الواقع الذي أنتجه ليس فقط الانقسام، بل و عن ما سببته سياسة التفرد و الإقصاء من فشل و انفضاض غير مسبوق عن التيار المركزي و ما كان يمثله من برنامج وطني جامع و قدرة على تجميع الحالة الفلسطينية بكل تشعباتها و مشاربها و تشتتها في أصقاع الكون تحت جناح هذا التيار.
منذ فشل المشروع السياسي للتسوية ممثلاً بمسار أوسلو أو حتى بمبادرة السلام الفلسطينية لعام 1988، و الساحة السياسية الفلسطينية تشهد محطات و هزات سياسية داخلية أدت حتى هذه اللحظة إلى تراجع ملحوظ في دور التيار المركزي الذي تمثله حركة فتح و معها حلفائها من فصائل منظمة التحرير، و قد ترافق ذلك أيضاً مع فشل هذا التيار في بناء السلطة الوطنية بما ينسجم مع مهمتها المركزية لتعزيز قدرة الناس على الصمود في دعم و مساندة الاهداف الوطنية السياسية وفي مقدمتها الخلاص من الاحتلال، أو المدنية سيما إرساء أسس العدالة و المساواة بين الناس، الأمر الذي توِّج بخسارتها للانتخابات عام 2006، و من ثم خضوع هذا التيار لشروط الرباعية التي تجاوزت التزامات أوسلو نفسه، مما سرَّع، و ضمن أسباب أخرى تتعلق بمنطلقات حماس الاخوانية المنشأ، في الانقلاب على السلطة في حزيران 2007 لتجد نفسها منفردة في حكم القطاع و تواجه وحيدة مسؤولية الفشل في الادارة وتلبية احتياجات أكثر من مليوني فلسطيني، دفعوا خلالها ثمن ثلاث حروب عدوانية شنتها اسرائيل على قطاع غزة.
حصاد هذه السنوات العجاف لم يقتصر فقط على آلاف الضحايا من الشهداء و الجرحى و المعاقين، أو تدمير آلاف البيوت و معظم البنية التحتية للاقتصاد الهش و الضعيف في قطاع غزة ، بل و الأخطر هو مصادرة الأمل في نفوس الغزيين و تحويلهم من حماةٍ للهوية الوطنية منذ النكبة إلى حالة من التيه باتوا فيها مستعدين للتعامل مع أي خيار يخرجهم من حالة الموت البطي الذي يواجهونه يوميًا ، سيما الأجيال الشابة، التي تتعرض لتهشيم منظم للوعي الوطني الذي تميز به القطاع، عبر الحصار الظالم ومخططات كي الوعي الاسرائيلية، و دعوات الحل هو الاسلام الحمساوية و أن انفراج و تغيير الأحوال يأتي بالدعاء لله دون الاخذ بالأسباب، بالاضافة لإدارة ظهر السلطة لهم و التخلي عن دورها لتلبية احتياجاتهم و تركهم لمعاناتهم المتفاقمة، و الاخطر ما ولده ذلك من شعور باليتم في علاقتهم مع مشروعهم الوطني الشامل و مع قيادتهم الوطنية الشرعية ممثلة بمنظمة التحرير .
بهذا التطور لمكانة قطاع غزة تحت ادارة حماس، تأكد فشل الحركة الاسلامية الاخوانية في فلسطين، و قدرتها على الحكم و ادارة الشأن السياسي للقضية الفلسطينية وفق منظورها الاخواني، مما دفعها للبحث مجدداً عن ثمن نيل شرعيتها، بديلاً عن المراجعة السياسية الواجبة و أشكال المقاومة المكلفة دون قدرة على تحقيق نتائج سياسية أو ميدانية، الامر الذي أضاف بعداً جديداً للأزمة الوطنية التي لم تعد تقتصر على التيار المركزي الذي تقوده حركة فتح بل باتت تشمل التيار الذي سعى طويلاً لاستبدال التيار المركزي في المنظمة بأن يحل محله.
استمر الصراع بين حركتي فتح وحماس اللتان فيما يبدو وصلا خط النهاية في البحث عن حبل النجاة لإنقاذ مكانتيهما وسلطتيهما وما يتطلبه ذلك من تجديد لشرعيتهما، معتقدتين أنه يمكنهما تمرير انتخابات شكلية منطلقتين من نقطة واحدة في العلاقة مع الشعب بأنه ضمير غائب مستتر غير مرأي ولا وجود له.
هكذا انطلق كلاهما، وخاصة فتح التي تعيش مأزق استراتيجي، بالقفز عن متطلبات المراجعة الموضوعية والذاتية لأسباب الفشل وفي هذا السياق يتم استخلاص العبر التي تحمي وحدة النسيج المجتمعي المستهدفة اصلاً من الاحتلال، ومن ثم العودة للشعب لاختيار قيادة جديدة مؤتمنة على الاهداف الوطنية وقادرة على تصويب المسار السياسي واستنباط سبل جديدة للمقاومة الوطنية ومركزها الصمود الميداني المقاوم لمساندة الصمود السياسي المطلوب. هذا في وقت كانت حماس تكمن أو تنتظر احتمالية تفكك السلطة و تيارها المركزي، للاستيلاء على التمثيل الكامل ليس فقط على صعيد السلطة بل و على المنظمة ، و لتحقيق هذا الغرض فهي بحاجة ليس فقط للشرعية الانتخابية، بل ولإرسال رسالة مفادها أنها جاهزة لمقاسمة فتح في الالتزام بشروط التسوية المفقودة و في مقدمتها الالتزام بما يسمى بشروط الرباعية كي تكون مؤهلة بالكامل للتعامل مع الدور المطلوب منها في الثمن الأكبر المتمثل بدور حارس أمن اسرائيل الذي تلعبه سلطة التيار المركزي، وهذا ما يتم إخضاع حركة حماس في قطاع غزة له من أجل اختبار مدى قدرتها على الفوز بالعطاء ، و هي تثبت قدرتها على ذلك كل يوم عبر شنطة المبعوث القطري.
اذن هذا هو الحال و البيئة السياسية، و ما ولدته من بيئة اجتماعية و قيمية تحيط بالعملية الانتخابية، و التي تتسم باستمرار تفكك التيار المركزي ليس فقط داخل حركة فتح بل و على صعيد اليسار الذي فشل فشلاً ذريعاً في لعب أي دور لصون الوحدة الوطنية كما سبق و تمكن من ذلك على الصعيدين السياسي و الفكري منذ بدايات انطلاقة الثورة وحتى اندلاع الانتفاضة الكبرى ، كما أنه يفشل اليوم في مجرد بلورة رؤية جماعية تحميه من خطر الاندثار، حيث قرر المضي في مسادا ارادية معلومة النتائج مسبقاً، ربما يستثنى من ذلك الجبهة الشعبية التي ما زالت قادرة على منع الاندثار بالاعتماد على تاريخها و ليس لامتلاكها برنامجاً بديلاً و مقنعاً لإمكانية التغيير كي يلتف حوله الناس.
أمام هذه المخاطر المفصلية التي تواجهها الحركة الوطنية في مآلاتها الراهنة، لا يبدو أنها قادرة على توليد الجديد من رحمها المتآكل، كما أن القوى الاجتماعية الأخرى غير جاهزة في ظروف التراجع التاريخي أن تنهض ببديل واضح ومكتمل يستجيب لمتطلبات اللحظة التاريخية، لان الخراب لم يقتصر على قوى الحركة الوطنية بل امتد كذلك ليصيب نخبها الفكرية والمجتمعة، كما غاب عن التأثير شخصيات وازنة كما حدث مباشرة في سنوات ما بعد النكبة أو هزيمة حزيران 67.
السؤال الذي يطرحه الجميع حول إمكانية الالتزام بموعد الانتخابات في نهاية مايو آيار أو تأجيله، لا يمتلك الاجابة عليه سوى الرئيس عباس، كمظهر هو الأبرز لطبيعة الازمة الفلسطينية والمتمثلة بالتفرد واحتكار القرارات المصيرية والمتصلة كذلك بالشأن الداخلي.
التقدم نحو الانتخابات ربما يحمل مخاطر وأشكال جديدة من الصراع على السلطة والتمثيل الذي لم يتم التوافق عليه سوى بنقل الانقسام إلى امكانية تقاسم البلد بالمحاصصة، وليس من خلال الشراكة في صنع القرار الوطني و تحمل المسؤولية في ادارة البلد و توفير احتياجات الناس، و ما يتطلبه ذلك من مراجعة سياسية شاملة و اعادة النظر بصورة جذرية في الأداء السياسي و فلسفة الحكم من خلال ربط انجاز مهمات التحرر الوطني بمهام البناء الديمقراطي و التي تتلخص بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و ايلاء كل ما يتصل بحقوق وقضايا الناس بما يكفي من الاهتمام الذي يمكنهم من الصمود باعتبار أن وظيفة و دور أي مؤسسة حكومية أو أهلية أو خاصة تقاس اهميتها و مبرر بقائها بمدى تلبيتها لهذه المهمة أساساً، كما أن تأجيل أو الغاء الانتخابات يحمل مخاطر المزيد من الاحتقان و احتمال الانفجار الاجتماعي و فقدان السيطرة الذي قد يترافق أيضاً مع كل أشكال الفوضى الأمنية، و العودة للفلتان تحت السيطرة الاسرائيلية، و التي ستكون نتائجها وخيمة، لا بل فهي معلومة و مرئية مسبقاً، فإسرائيل هي العامل الأكثر تأثيراً في الشأن الداخلي، و فشل الحركة الوطنية المتواصل و استمرار تفككها سيعظم من الدور الاسرائيلي و امتداداته
التغيير الجوهري الذي شهدته الساحة الفلسطينية هو أنه لم يعد بالإمكان الاستفراد بالقيادة والحكم من أي جهة كانت وأن الحل للأزمة الوطنية ليس بالمحاصصة على حساب الناس والوطن، بل المطلوب مراجعة سياسية شاملة لمسار أوسلو، وتعبيد مسار وطني ديمقراطي يحقق الشراكة الوطنية الكاملة في تحمل المسؤولية وليس اقتسام البلد الذي لن يفضي سوى لوأد وتمزيق المشروع الوطني والتفريط بتضحيات عظيمة قدمها الفلسطينيون على مدار ما يزيد عن قرن من الزمن.
ما العمل أمام هذا المشهد المظلم والذي يفتقر للحكمة والحكماء القادرين على التأثير؟ ربما يكون النداء التي وجهه سلام فياض قبل يومين بدعوة كافة القوى و رؤساء الكتل الاساسية و قادة المجتمع لحوار وطني جدي يخرج ليس بما يسمى وثيقة شرف، بل بخارطة طريق ملموسة للخروج من المأزق سواء بإجراء الانتخابات أو تأجيلها و لكن الأهم بمراجعة المسار الذي أوصلنا الى ما نحن عليه، وليس بالمضي نحو مقصلة القضية بالرضوخ لشروط هي أسوأ بما لا يقاس من أوسلو ذاتها و هذه المرة بموافقة القطبين المهيمنين على المشهد الدرامي، و هذا ما لا يجب أن يسمح به بغض النظر عن السيناريو المتصل بالالتزام بالموعد المحدد للانتخابات أو بتأجيلها ، فقيمة الانتخابات الأساسية تتمثل بصون وحدة الشعب و اعادة بناء حركته الوطنية و استعادة وحدة النظام السياسي ، و يجب ألا يسمح تحت أي ظرف كان بانزلاقها نحو مزيد من الشرذمة و تبعات ذلك في أن تصبح فريسة ب سهل الانقضاض النهائي عليها من قبل حكومة الاحتلال ومخططاتها المعدة بإحكام لتصفية القضية الفلسطينية.