بقلم: جمال زقوت
انتهت زيارة بايدن للمنطقة، وكما ذكر عدد من ذوي الرأي والخبرة، بأنه عاد منها إلى واشنطن دون أن يحقق تماماً ما يريد. أما هنا في فلسطين، وهذا الأهم بالنسبة لنا، فهي لم تخرج إطلاقاً عما كان متوقعاً من الأغلبية الساحقة، ولم يتعدى الاهتمام بنتائج هذه الزيارة سوى من قبل “الخلية الضيقة المهيمنة” على مقاليد الحكم في السلطة، والذين تعلقوا بقشة بايدن، مستمرين في اللهاث وراء الوهم خلف ما يسمى بالعملية السياسية، وحل الدولتين الذي تحدث عنه بايدن دون تحديد مسؤوليات أو مرجعيات أو خطة زمنية لتطبيقه، وما يتطلبه من عمل جاد يفضي إلى إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، بل أكثر من ذلك، فقد اعتبر بايدن أن إمكانية تطبيقه باتت بعيدة المنال، وأمامها عقبات كبيرة، دون أي إشارة لمسؤولية إسرائيل عن تلك العقبات، سيما ما يتصل بسياسات ومخططات التوسع الاستيطاني غير المسبوقة، والتي لم يأتي بايدن على مجرد ذكرها إطلاقاً. كما أن إشارته لمثل هذا الحل على أساس خطوط 1967، لا يلغي أطماع اسرائيل بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، سيما في ظل تغاضيه عن قضية الاستيطان.
فقد كان بإمكانه على الأقل، ومن خلال وزير خارجيته بلينكن، إلغاء قراريّ بومبيو وزير خارجية إدارة ترامب، سواء المتعلق بأن الاستيطان لا يتعارض مع القانون الدولي، أو ذلك المتصل بوسم بضائع المستوطنات كمنتجات إسرائيلية، وهذا أضعف الإيمان، فكلا القرارين يعنيان تشريعاً للاستيطان واعترافاً واقعياً بضم تلك المستوطنات لإسرائيل، كما أشار رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض في أكثر من مناسبة بما في ذلك مقالة في صحيفة القدس عشية الزيارة، ذلك رغم أن هذين القرارين يتناقضان مع السياسة التقليدية المعلنة للإدارات الأمريكية المتعاقبة، والتي كسرها ترامب، ولم يسعى بايدن وإدارته للقيام بأي خطوة باتجاه تصويبها، وهذا ما تعتبره إسرائيل انجازاً مهماً لها، ولمزيد من إطلاق يدها للاستمرار في التوسع الاستيطاني على حساب شعبنا وأرضه وحقوقه في هذه البلاد. هذا بالإضافة إلى أن بايدن لم يشر اطلاقاً حتى لوعوده المتصلة بإعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، أو إعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وبينما تستمر الإدارات الأمريكية في إبقاء المنظمة على قائمة الإرهاب، في وقت أنها أزالت منظمة كاخ العنصرية المتطرفة عن تلك القائمة.
هذا في وقت أن الرئيس الفلسطيني لم يُشر في كلمته أمام بايدن إلى أن نقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس المحتلة يتناقض مع قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي التي تعتبرها أرض محتلة، الأمر الذي يشي بقبول الأمر الواقع أو بالحد الأدنى التغاضي عنه.
لشديد الأسف، ورغم ذلك كله، ورغم السياسة والممارسات العدوانية والاغتيالات والاعتقالات اليومية ضد أبناء و بنات شعبنا، وهدم البيوت والتطهير العرقي في الشيخ جراح وسلوان ومسافر يطا وغيرها من المناطق المحتلة في القدس والأغوار وما يسمى بمناطق “ج” أحياناً في “أ” وغيرها، والتي لم تحظى بأي اهتمام من بايدن، سوى المرور العابر حول مقتل شيرين أبو عاقلة، بعد أن أخرجت واشنطن جيش الاحتلال من المسؤولية الحصرية عن استهدافها و قتلها. فتخرج علينا الرسمية الفلسطينية لتتحدث عن ضرورة البناء على ما حققته هذه الزيارة، دون أن يحددوا ما الذي تحقق، غير الهبوط المريع بسقف القضية الفلسطينية، لتتحول إلى مجرد تسهيلات في الحركة، وبعض العطايا الإنسانية لمستشفيات القدس وللأونروا، وما سبقها من إعلان “إدارة جيش الاحتلال المدنية” عن نقل عناوين أو منح بطاقات إقامة هوية لعدد محدود من المواطنين، و ذلك بديلاً عن الحقوق الوطنية، على الأقل كما عرفتها الشرعية الدولية، وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال، ليصبح السقف الفلسطيني، هو ما تقوم به “الشؤون المدنية” من حلول انتقائية تقدم وكأنها مكرمات عليا أو تسهيلات احتلالية لما هو حق أصيل للمواطنيين الفلسطينيين وفق القانون الدولي الذي ينظم علاقة السلطة القائمة بقوة الاحتلال بحقوق السكان، حتى في سنوات الاحتلال المباشر، كما أنها التزامات إسرائيلية محددة في البروتوكول المدني للاتفاقية الانتقالية، والتي للأسف تحولت إلى وضعية دائمة، أعاد خلالها الاحتلال إحياء ما يسمى “بالإدارة المدنية في يهودا والسامرة”، وتحولت معها السلطة الفلسطينية لمجرد “لجنة ارتباط مدنية” التي باتت وكأنها أعلى سلطة لتنظيم “صلة هذه الإدارة مع السكان”، وليس حتى سلطة لإدارة المسؤولية على السكان، وهو ما ينفي حتى دور السلطة “كسلطة حكم ذاتي على السكان”.
إن هذه الصورة المتآكلة لبقايا واقع الحال الفلسطيني جراء “صراعات المستنقع” السائدة بين القوى الانقسامية المهيمنة على المشهد، وفي داخل كل منها، خاصة بين أجنحة السلطة، وتدافعها على الخلافة، هي التي دفعت بالقضية الفلسطينية لهذه المآلات المخيفة من التهميش، الأمر الذي يشجع الطامحين للوصول إلى سدة الحكم، معتمدين على فتات “الإدارة المدنية في يهودا والسامرة”، أو من خلال نظرية “استرضاء المحتل”، بأن يستمر هذا المشهد الذي تتآكل فيه الحقوق، بما في ذلك حق الشعب الفلسطيني في انتخاب قيادته وممثليه، حيث بدون ذلك، لم يكن ليجرؤ هؤلاء على مجرد الافصاح عن “جدارتهم تبوء القيادة دون انتخابات”. فشعب الشهداء والتضحيات الكبرى على مدار ما يزيد عن مئة عام من الصراع منذ وعد بلفور وحتى يومنا هذا، وحده، ومن خلال انتخابات ديمقراطية شاملة وشفافة ونزيهة، هو من يحق له أن يختار قيادته، وأن يكون قادراً على مساءلتها وعزلها إن حادت عن حقوقه المشروعة أو فرطت بتضحياته الهائلة.
لم نكن بحاجة لما تحدث عنه بايدن في نهاية كلمته حول مدى الحاجة للحوكمة والحكم الرشيد واحترام الحريات وتعزيز الديمقراطية ومحاربة الفساد وبناء المؤسسات وتعزيز دور المجتمع المدني، وغيرها من القضايا، رغم أن ذلك يُشكل سابقة دبلوماسية في العلاقات الدولية. فكل هذه القضايا معلومة ويكتوي الناس من تغييبها، وهي تشكل مطالب شعبية أصيلة، بل إنها في الواقع تشكل معايير وأسس جدية لإحداث التغيير والنهوض الوطني الديمقراطي المطلوب، بغض النظر عن أهداف وأجندة بايدن من التطرق إليها علناً، والتي ربما تحمل في طياتها إشارة للمسؤولية الفلسطينية عن جعل حل الدولتين بعيد المنال.
إن معالجة هذا الواقع المرير، لا تمر عبر استمرار الرهان والتعلق بقشة الوهم، ولا حتى الاختباء وراء المواقف العربية المعلنة والايجابية والتي أُعلنت في قمة جدة لجهة مركزية القضية الفلسطينية باعتبارها مفتاح الأمن والاستقرار في المنطقة، على أهمية ذلك وضرورة معالجة علاقاتنا العربية بصورة جدية، بل إن المدخل الوحيد لهذه المعالجة، يتمثل في استعادة نقاط القوة التي تعيد للقضية الفلسطينية مكانتها، وفي مقدمتها إعادة الاعتبار لحق الشعب الفلسطيني المشروع في رفض ومقاومة الاحتلال، وعلينا أن نتذكر ما أحدثته الانتفاضة الكبرى من استعادة مكانة قضية شعبنا وقيادته، بعد أن قال مستشار الأمن القومي الأمريكي بريجنسكي ذات يوم بعد إجلاء قوات الثورة الفلسطينية من لبنان عام 1982، “وداعاً لمنظمة التحرير”.
إن استنهاض طاقات الشعب الفلسطيني واستعادة الأمل في نفوس الأجيال الشابة، يمر عبر إنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوحدة الوطنية باعادة الاعتبار للطابع الائتلافي لمنظمة التحرير الفلسطينية، كجبهة وطنية عريضة تضم جميع الفصائل والقوى السياسية، بما فيها التي ما زالت غير منضوية في إطارها، وكذلك القوى الاجتماعية الحية والشخصيات المستقلة المؤثرة والفاعلة في المجتمع، وكقائدة لنضال شعبنا وممثله الشرعي والوحيد في كافة أماكن تواجده، وكذلك إعادة بناء مؤسسات السلطة الوطنية في إطار حكومة إئتلاف وحدة وطنية مهمتها الجوهرية تعزيز صمود الناس، واحترام حقوقهم المدنية والدستورية، وفي مقدمتها حقهم في المشاركة السياسية وانتخاب قيادتهم، وتحمل مسؤولية الدفاع عن مصيرهم الوطني وحقوقهم المشروعة، وتعزيز قدرتهم على مجابهة كل أشكال ومحاولات تهميش وتصفية حقوقهم الوطنية، وهو فقط ما سيجبر إسرائيل ومعها الولايات المتحدة، من النظر والتعامل بطريقة مختلفة مع حقوق شعبنا ومكانة قضيته وندية التعامل مع قيادته، و لكن للأسف فإن الخلية الحاكمة تستمرئ الحال الراهن و تتمسك به، وتحيد بنظرها عن الممكن والمتاح حتى لتحسين صورتها ومكانتها، كما أن حكام الأمر الواقع في غزة لم يعودوا، كما يبدوا، مكترثين بهذه الضرورة الوطنية، الأمر الذي يستدعي مسارعة جميع مكونات المجتمع، وممثلي الفئات الشعبية المتضررة من الانقسام وخطر الانجرار إلى الاحتراب على بقايا سلطة لاحتكار”الوكالة الأمنية” وربما ما هو أسوأ لأن لا سمح الله، لتنظيم قدراتها وبلورة رزمة مهمات وأولويات تمكنها تدريجياً من بلورة إطار وطني ديمقراطي عريض يتصدى بصورة جذرية للمهام الوطنية والديمقراطية لوقف الانحدار وإنقاذ قضية شعبنا وحقوقه الوطنية وتطلعاته المشروعة وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير، وفي الحرية والاستقلال والكرامة الوطنية والعيش الكريم على أرض وطنه.
في كل الأحوال إن العالم يتغير، والمنطقة معه يبدو أنها تتغير وتعيد تموضعها، وبالتأكيد لا الاحتلال ولا الانحياز الأمريكي والنفاق الدولي قدراً عليها وعلى شعبنا ومصيره الوطني، فبقاء الحال من المحال.