الياس خوري
هناك أخطاء شائعة في القاموس السياسي السائد في إسرائيل، يجري التعامل معها بصفتها حقائق. العالم ابتلع هذه «الحقائق» لأنه لا يريد أن يرى، كما ابتلعتها الأنظمة العربية لأنها لا ترى سوى البقاء في السلطة هدفاً.
الخطأ الأول هو اعتبار أن إسرائيل دولة ديمقراطية، والدليل هو الانتخابات الدورية التي تجري فيها، والتداول السلمي للسلطة وإلى آخره…
هذا الافتراض يتجاهل حقيقة أن هذه الانتخابات التي تجري من ضفاف نهر الأردن حيث تنتشر المستعمرات الإسرائيلية إلى البحر المتوسط، تستثني حوالي أربعين في المئة من السكان. فالسكان الفلسطينيون في الأراضي الفلسطينية التي احتلت علم 1967، لا يحق لهم المشاركة في هذه الانتخابات لأنهم لا يحملون الجنسية الإسرائيلية، بينما يشارك فيها مستوطنون في الضفة صادروا الأراضي، ولا يتوقفون عن الاعتداء على أهلها.
لكن إسرائيل التي تطلق على الضفة الغربية اسم «يهودا والسامرة»، وضمت القدس الشرقية، وتحاصر قطاع غزة، لا تعترف بأنها قوة احتلال. أي أنها قامت عملياً بضم الأراضي الفلسطينية دون أن تعلن ذلك. وإذا لم يكن هذا احتلالاً حيث يخضع السكان لحكم عسكري كامل، فماذا يكون؟
الاسم الوحيد الذي يلائم هذا الواقع ويعبر عنه هو الأبارتهايد.
هل يمكن وصف نظام الأبارتهايد بأنه نظام ديمقراطي؟
أمام إسرائيل أحد خيارين: الضم أو الانسحاب. الانسحاب ليس وارداً في القاموس الإسرائيلي، أما الضم فهو يجري ببطء وثبات عبر حركة الاستيطان والقمع الوحشي الذي يصاحبها.
بهذا المعنى، فإن الانتخابات الإسرائيلية ليست مؤشراً ديموقراطياً، وكل كلام عن الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط هراء.
إسرائيل دولة احتلال مُعسكَرة بشكل كامل، وهذا الاحتلال الدائم يقوم بتحويلها إلى دولة ثيوقراطية-دينية، حيث يسود خطاب يميني فاشي متكامل العناصر.
الخطأ الثاني هو تحليل الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بصفتها تنافساً بين معسكرين: معسكر اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو، ومعسكر الوسط -اليسار بقيادة يائير لبيد.
تعالوا نقرأ الخريطة بطريقة مختلفة:
معسكر نتنياهو يضم ثلاثة مكونات: يمين متطرف يعبر عنه حزب الليكود، يمين ديني تقليدي يعبر عنه حزبا المتدينين «شاس» للشرقيين و”يهوديت هتوراة” للغربيين، ويمين الترانسفير الذي يتجسد في «الصهيونية الدينية» بن غفير وسموتريتش.
في المقابل، يتكون المعسكر الآخر من أربعة مكونات: وسط اليمين ويعبر عنه حزبا «يش عتيد» بزعامة لبيد، والمعسكر الوطني بزعامة بني غانتس، ويمين متطرف ويمثله حزب «إسرائيل بتينو» بزعامة ليبرمان، ويسار صهيوني من خلال حزبي العمل وميريتس، ويمين عربي متدين بزعامة منصور عباس.
وعلى هامش هذه الخريطة قائمتان فلسطينيتان: تحالف الشيوعيين، وأحمد الطيبي، وحزب التجمع.
ميريتس والتجمع خرجا من السباق لأنهما لم يتجاوزا نسبة الحسم (3،25 ٪)، وحزب العمل خرج مُحطماً رغم أنه تجاوز نسبة الحسم بنتيجة (3،69 ٪).
تشير هذه الخريطة إلى أن المعركة كانت بين تحالفين يمينيين، الأول فاشي سافر ويريد تأبيد الاحتلال وضم المناطق، والثاني يتكلم لغة أكثر نعومة لكنه غير مستعد للتنازل عن الاحتلال، وأثبت في عمليات الجيش الإسرائيلي الأخيرة في نابلس وجنين بأنه لا يقل شراسة عن المعسكر الأول.
الخطأ الثالث هو الكلام عن يسار إسرائيلي. نعم، لقد أسس حزب الماباي، الذي تحول إلى حزب العمل، الدولة بشعارات اشتراكية-ديمقراطية، لكن هذا اليسار الصهيوني أسس أيضاً التطهير العرقي، ووضع فلسطينيي الدولة العبرية تحت نظام عسكري بقبضة حديدية، وقام بحشر الفلسطينيين في غيتوهات مغلقة بالأسلاك الشائكة.
هذا اليسار غير اليساري، سرعان ما انزاح إلى اليمين وتبنى سياسات نيوليبرالية من جهة، وكان المشجع الأول للمستعمرات التي أسس أغلبيتها الساحقة المتدينون القوميون، جماعة «غوش امونيم»، من جهة أخرى. آخر زعمائه إيهود باراك، أطلق شعار عدم وجود شريك فلسطيني للسلام، معبداً الطريق لصعود سفاح صبرا وشاتيلا أرييل شارون إلى السلطة وعملية السور الواقي التي أنهت اتفاق أوسلو وجعلت للسلطة الفلسطينية مهمة واحدة هي التنسيق الأمني؛ أي قمع المقاومة.
هذا الشبح اليساري دخل في مسار التلاشي، وتلاشى كلياً مع حكومة لبيد الأخيرة، وصار صدى باهتاً لليمين العنصري الإسرائيلي.
وفي الانتخابات الأخيرة احتفى هذا الوهم، ولم يعد له أي تأثير بعد هزيمته المخزية.
قراءة هذه الأخطاء الثلاثة تسمح لنا بأن نستنتج حقيقتين:
الحقيقة الأولى هي انزياح المجتمع الإسرائيلي بشكل واضح إلى اليمين الفاشي، فمجتمع المستوطنين لا ينتج سوى خطاب التفوق اليهودي بلغة عنصرية تضعه على يمين قوى اليمين الفاشي-الشعبوي الصاعد في أوروبا.
الحقيقة الثانية هي أن إسرائيل في طريق التحول إلى دولة ثيوقراطية دينية. إن تربية الوحش الديني التي يلعبها نتنياهو سوف تفترس الليكود إن لم تكن قد افترسته.
المسألة لا يلخصها بن غفير، وهو مســـتوطن يعيش في مستعمرة «كريات أربع» في الخليل، أو سمورتيتش المقيم في مســــتعمرة «بيت إيل» قرب رام الله. وللــــتذكير، فإن بن غفير، الذي يستعد ليصير وزيراً، عربد طويلاً في المســـجد الأقصى والشيخ جراح، وهو تلميذ مائير كاهانا، داعية الترانسفير، ومعجب بسفاح الحرم الإبراهيمي باروخ غولدشتاين الذي أطلق النار على المصلين في المسجد الإبراهيمي عام 1994، فقتل 29 مصلياً وجرح 150 قبل أن يُــقتل.
المسألة أكثر وضوحاً وتؤشر إلى بنية مجتمعية استيطانية لن تُبقي مكاناً بين يهود إســرائيل سوى للعنصريين والفاشيين، وتعلن نهاية حتمية لليبرالية إسرائيلية أسست للجريمة وأنكرت مسؤوليتها عنها. واليوم يأتي القاتل ليقول بوضوح إنه قاتل.
إسرائيل صارت وحشاً لا يمكن إيقاظه من هوسه بالدم والتفوق إلا من خارجه. وهذا ليس مسؤولية المجتمع الدولي، الذي لا يعوّل عليه، ولا مســـؤولية أنظمة عربية وظيفتها القمع والنهب، إنها مسؤولية الفلسطينيين أولاً، ومــــسؤولية قواهم المقاومة التي تعمل في ظروف بالغة الصعوبة كي تثبت أن الــــحياة أقوى من الموت.