جمال زقوت
تودّع البشرية عامًا ثقيلًا، وتقف على عتبات عام آخر جديد، وهي ما زالت مثقلة بوباء يستمر في الفتك بحياة الملايين من البشر، ويضع عشرات ملايين أخرى أمام تداعيات اقتصادية واجتماعية، تبدو بعض الشعوب والدول لا طاقة لها بالقدرة على تحملها أو التعامل معها. هذا في الوقت الذي لا تزال فيه فلسطين تواجه هذا الخطر، فتدخل العام الجديد والاحتلال يحاول إغلاق الأمل أمامها بإمكانية استعادة نور الحرية والعيش بسلام كما كل شعوب الأرض، كما يبقيها الانقسام وسط عتمة تبدو بلا نهاية.
إذا كان الوباء قدرًا نتشارك في مواجهته مع باقي شعوب الكون، وطالما لم يدرك الاحتلال بعد خطر مصادرة حرية شعب آخر على حقيقة حرية مجتمعه، فإنه بطبيعته الاستعمارية وُجد لمصادرة أي أمل في القدرة على الخلاص وإمكانية التحرر من القهر والموت والظلم الذي يزرعه يوميًا في بلادنا. ويبقى السؤال الجوهري الذي باتت تردده الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني وهو: إلى متى سيستمرُّ الحال المتهاوي على ما هو عليه؟! وهل حقًا أن معضلة شعبنا تنحصر فقط في الاحتلال المزمن والوباء المستجد؟ أم أن هناك إمعانًا بات، أيضًا، مزمنًا في إدارة ظهر المهيمنين والمستفيدين من هذا الواقع، لاحتياجات وتطلعات شعبنا، ونضالاته وتضحياته على مدار أكثر من سبعة عقود منذ النكبة ورده عليها، كما على هزيمة عام 1967، التي استُكمل فيها احتلال كل فلسطين.
من الصعب إجراء جرد حساب لعقود من هذا الكفاح الطويل، وليس أمامنا سوى المحاولة، وإن بعجالة، لرصد الحصاد المر لعام مضى، لعلنا نستشعر معًا ممكّنات الولوج لعام جديد نعدُ فيه أنفسنا بشيءٍ من البهجة والفرح، التي حاول الناس ورغم حلكة السواد أن يشدّوا حدقات عيونهم لترى بصيص نور قادم.
كنتُ في غزة بداية هذا العام، وعشت مع روح جديدة خلقتها حالة ترقب إجراء الانتخابات؛ علّها تخرجهم من جحيم يعكس مأساة مركّبة لأهلنا في القطاع، الذي يعيش تحت حصار اسرائيلي لأرواح الناس، وليس فقط سبل معيشتهم ومستقبلهم، وما ولّدته هذه الروح من أمل الخروج من بين كماشة صراع الانقساميين على التمثيل دون أن يقدموا للناس سوى الفشل والإحباط المزمنَيْن. هذه الروح أُصيبت في مقتل عندما تم في الدقيقة التسعين، في التاسع والعشرين من أبريل/نيسان الماضي، الإعلان عن إلغاء تلك الانتخابات، وقد كانت ضربة تحمل في طيّاتها تداعيات خطرة، لم تنجح معها كل التطمينات الكلامية التي أُطلقت حينها عن الاستعداد لتشكيل حكومة وحدة وطنية تنهي الانقسام لتخفيف وامتصاص هذه المخاطر. ببساطة لأن الناس أدركوا عدم جديتها، وأن الهروب من استحقاق الانتخابات كان، وما يزال، للانفراد بالسلطة وبالمصير الوطني لشعبنا في يد حلقة ضيقة تزداد عزلتها ويتعمق مأزقها كل يوم.
على الناحية الثانية من المشهد، وفي ذات ميدان المعركة والصراع على التمثيل، عملت حماس على اختطاف معركة المواجهة الشعبية الناجحة ضد الأبارتهايد الاسرائيلي في القدس والشيخ جراح، بعد أن فشلت القيادة الرسمية في التقاط وتطوير هذا النجاح، بدلًا من استمرار إظهار العجز أمام المحتلين في معركة القدس واستحقاقاتها الوطنية والديمقراطية، محاولةً بذلك، أي حماس، استثمار حالة الضعف التي عمّقها الهروب من الاستحقاق الانتخابي داخليًا، وتنامي التضامن الشعبي الواسع ضد سياسة التمييز العنصري التي أعادت الذاكرة لمأساة النكبة دوليًا. فتصرفت حماس بعد مواجهة آيار العسكرية، وكأن انتصارها كان على منظمة التحرير والسلطة، لتفتح مجددًا أوهامها بالسيطرة على المنظمة، حيث لن تكون حينها حماس بحاجة لانتخابات للإمساك بالحالة الفلسطينية المتهالكة.
مرة أخرى؛ وإمعانًا في الفشل الذي لا يولّد سوى ضعف الثقة بالنفس، انتهجت السلطة سلوكًا أمنيًا في معالجة علاقتها مع الناس المحبطين من إمكانية التغيير، كان أخطرها اغتيال نزار بنات، وما نجم عنه من تداعيات داخلية كاد بعض المنتفعين أن يحولها “لمعركة جمل” جديدة. ولم تنجح أوهام اللّهاث وراء مفاوضات تمكّنها من ترميم الشرعية المتآكلة، ومرة أخرى عبر اسرائيل، التي باتت أكثر عنصرية وعدوانية وتنكرًا لا لبس فيه لمنع أية تسوية مهما كانت هزيلة، وليس في جعبتها سوى خيار التسليم لشروطها كاملة، حينها تكون مستعدة لتقديم ما يمكن تسميته “تحسين ظروف السجناء”، وليس التعامل أو الاعتراف بالحد الأدنى من حقوق شعب يناضل على مدار قرن من أجل انتزاع مصيره بيده. كما اتضح أن الرهان على إدارة بايدن، بأن تضع حدًّا لهذه العدوانية التي تقودها حكومة بينيت-لبيد، هو رهان خاسر؛ حيث أن القضية الفلسطينية ليست على جدول أولوياتها، وربما لن تكون، ما لم نستعِد زمام المبادرة باستنهاض طاقات كل شعبنا لكسر طغيان المحتلين؛ فهكذا علّمتنا تجربة كفاحنا الطويلة، وتجارب جميع الشعوب التي ظفرت بحريتها واستقلالها من المستعمرين.
هذا الواقع هو الخطر الحقيقي الذي يفسّر حالة التآكل، والتي تنجرف يوميًا بيأس نحو إحباط مزمن لا يولّد سوى التفكك والانهيار الذي نعيشه كل يوم بحالة الانفلات المطلقة والعجز الكامل عن تلبية احتياجات الناس وتعزيز قدرتها على الصمود. تظهير هذه الصورة ليس منظورًا سوداويًا، ولا يلغي وجود جمرات ملتهبة في العديد من مفاصل حياة الناس والمجتمع التي تنذر باندلاع شرارة مواجهة شاملة مع المحتل، ولا يخمدها أو يبطؤها، للأسف، سوى القنوط من واقع حال المهيمنين على المشهد عبر ضفتيّ الانقسام، الأمر الذي يضع العام القادم أمام استحقاق كبير وهو التغيير؛ إما عبر التوافق الوطني لإنجاز حكومة وحدة وطنية انتقالية مفوضة لإنهاء الانقسام و معالجة تداعياته والأزمات المتفاقمة الناجمة عنه ، وتهيّئ الأجواء التي تطلق فضاءً نقيًا وجديدًا لمسارات النضال الوطني ضد الاحتلال ركيزتها الصمود الشعبي، و الفعل السياسي تحضيرًا للانتخابات، أو لن يكون أمام الشعب من خيارٍ سوى الخروج لاستعادة زمام المبادرة بيده دفاعًا عن قدرته على البقاء، والذي بات مهددًا. العالم يوميًا يحقق إنجازات ولو محدودة لمحاصرة الوباء تمهيدًا للانتصار عليه وعلى تداعياته. وشعبنا لن يعدم الوسيلة من إبداع السبل وتقديم قيادات شابة وأخرى مجربة ومخلصة لاستعادة بوصلة النضال، وترميم الجراح تمهيدًا لنصرٍ أظنه ليس بعيدًا مهما كانت أثمانه غالية.