جمال زقوت
تخيّم على المشهد الفلسطيني حالة غير مسبوقة من التيه السياسي، تنعدم فيها أي محاولة ولو لمجرد تدوير الزوايا، التي قد تفضي لبصيص أمل. هذا في وقت أن الأشهر الماضية شهدت ظهور استعدادات للتضحية، إلا أنها للأسف ظلت تدور في حلقة تبدو غير قادرة على نفض غبار هذا المشهد.
شهدت السنوات الماضية حراكات اجتماعية وشبابية متعددة، معظمها ذات طابع مطلبي، وكان أبرزها حراكات المعلمين لتحسين رواتبهم في ظل الأوضاع المعيشية المتردية، ومعدلات الغلاء المتفاقمة. ولعل الانسداد الذي وصل إليه اضراب المعلمين رغم عدالة مطالبهم، حيث سبق وأقرت بها الحكومة، إلا أنها ماطلت وتلاعبت وفشلت في تنفيذها، الأمر الذي يكشف أبعاداً جديدة لطبيعة الأزمة الوطنية العامة، التي يلفها ذلك المشهد المستعصي، كما يبدو، على المعالجة والتفكيك.
صحيح أن جذور الأزمة تتمثل بطغيان المصالح الفئوية والشخصية التي تكرست عبر سنوات الانقسام، وكان ضحيتها الأولى تغييب مؤسسات الرقابة والمساءلة البرلمانية، وتسيّد أنظمة حكم فردية وفئوية آخر اهتماماتها المصالح العامة للقطاعات الشعبية العريضة، إلا أن الصحيح أيضاً أن هذه الحراكات لم تتمكن من مجرد محاولة بلورة قاسم مشترك ناظم فيما بينها، ليُمكنها من توسيع قاعدتها الشعبية، القادرة على بناء كتلة شعبية تقود التغيير نحو معالجة جذور هذه الأزمات المتكررة.
كما أن الحراكات الشبابية التي انطلقت في أكثر من مناسبة منذ بداية الانقسام، ظلت حبيسة حالة الرفض للواقع دون أن تبذل ما يكفي من جهد يمكنها من الالتقاء فيما بينها على قاسم مشترك قادر على تحويلها إلى حركة اجتماعية مؤثرة في الفضاء العام، وتملأ في نفس الوقت فراغ نكوص الحركة الوطنية في أن تشكل رافعة جدّية للنضال الوطني والاجتماعي.
إن المعالجة المطلوبة لهذه التجارب، واستخلاص دروسها الغنية، باتا يتطلبان، وفي سياق محاولات الإجابة على سؤال شروط تجديد الحركة الوطنية، أو بلورة رؤى كفيلة ببناء حركة وطنية جديدة، اعادة البحث في السبل والأطر القادرة على تحقيق هذا الهدف.
نكوص الحركة الوطنية ومؤسسات المجتمع المختلفة عن الربط بين مهام استكمال التحرير الوطني، ومهام البناء الديمقراطي، شكل السبب الأساسي وراء اقصائها، وتخلفها عن القيام بدورها التاريخي، وتذيُلِّها في هوامش المشهد الانقسامي وأطرافه، التي باتت تعاني من مظاهر الفشل الاستراتيجي المزمن، سيما بعد نجاح حكومة الاحتلال في وأد ما كان يعرف بمسيرة التسوية، واصرار القيادة المتنفذة على التمسك بحطام هذه المسيرة. الأمر ذاته ينطبق على استراتيجية وبرنامج “مقاومة” حماس، الذي تم مقايضته مع حاجتها للبقاء واستمرار سيطرتها على قطاع غزة، وفي سياق استراتيجية الاحتلال لتمزيق الكيانية والهوية الوطنية.
في ظل هذا المشهد، وغياب ولو نقطة ضوء في نهاية نفق الشرذمة، وما رافقها من افقار للقطاعات الشعبية العريضة، وشراسة مخططات الاحتلال التوسعية بالاستيلاء على أراضيهم ومصادر رزقهم، سرعان ما التفت هذه القطاعات حول ظاهرة المقاومة المسلحة التي شهدتها مدن الضفة الغربية، وقد تمكنت بعض تشكيلاتها من امتلاك حاضنة شعبية ملموسة، ولكنها أيضاً ظلت وما زالت تفتقر للحاضنة السياسية.
لقد بات من الواضح أنه دون بلورة أسس جامعة لبناء حركة شعبية عريضة، تضم كافة الاتجاهات التي لها مصلحة حقيقية في التغيير الديمقراطي، وعلى أساس الاقرار بالتعددية السياسية والفكرية دون مراوغة، أو نزعات ذاتية، فستظل كل هذه الحراكات والمبادرات وحتى التضحيات خارج القدرة على احداث هذا التغيير المنشود.
توفير البيئة الكفيلة بنمو هذه المبادرات هي الأولوية العليا أمام الوطنيين الفلسطينيين، شريطة أن تظل بوصلتها قادرة على الربط الموضوعي بين مهام النضال الاجتماعي وأطره القادرة على قيادة هذا النضال، وبين متطلبات النضال الوطني القادرة أيضاً على تحويل ارادات القطاعات الشعبية واحتياجاتها المختلفة إلى ارادة فعل وطني للخلاص من الاحتلال. بالتأكيد أن انجاز هذه العملية يحتاج إلى تراكمات متأنية، ولكنها لن تُستكمل إلا بتغيير موازين القوى الفعلية في صندوق الاقتراع.