بقلم: جمال زقوت
لم تشهد القضية الفلسطينية منذ مئة عام مثل هذا الانسداد ومحاولات فرض العزلة عليها، فنكبة عام 48 سرعان ما تلتها ثورة يوليو في مصر، ومن ثم بدء تشكل حركات المقاومة منذ أواسط الخمسينات، أما المجموعة التي ظلت صامدة على الأرض فلعبت دوراً محورياً في حماية الهوية، وبعد هزيمة عام 1967 كانت معركة الكرامة، ورغم أيلول الأسود ظل العرب مساندين للقضية الفلسطينية، وتدريجياً بدأ مركز الحركة الوطنية يتلمس الطريق نحو الوطن، صمود بيروت ورغم الخروج الكبير منها أثمر أكبر وأهم انتفاضة في التاريخ الفلسطيني عام 1987.
بديل ما بعد هزيمة المرحلة
في كل منعطف كان لإعادة استنهاض العامل الذاتي الأثر الحاسم لإبقاء القضية حية، وإفشال مخططات التصفية. وراهناً يمكن القول بأن من لديه غيرة وطنية حقة فهو أمام خيار وحيد، وهو الانخراط في بلورة حركة سياسية جديدة قادرة على تقديم البديل لما بعد هزيمة المرحلة، وبروح وطنية جامعة الاتجاهات والجغرافيا لاستنهاض مشروع وطني لكل الفلسطينيين أينما وجدوا وبغض النظر عن تبايناتهم السياسية والفكرية، فذلك عنصر قوة وليس مظهر ضعف.
دولة فوق المساءلة
لا يكاد يمر يوم دون أن ترتكب قوات الاحتلال عملية اقتحام وقتل مواطنين فلسطينين على مجرد الشبهة سيما في حزام الشمال وخاصة “جنين ونابلس”، دون أن تحسب أي حساب للمساءلة، فهي تعتبر نفسها وجنودها فوق القانون، بل، فقد تحدى رئيس حكومة الاحتلال لبيد الإدارة الأمريكية ذاتها عندما ألمحت لأهمية المحاسبة. يجري ذلك دون أن تحرك القوى المهيمنة على المشهد الانقسامي لسلطتي رام الله وغزة ساكناً، وصلت حد ترك حركة حماس للجهاد الإسلامي وحيدة في مواجهة الحرب التي أعلنها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة. فما تسرب من معطيات يشير إلى أن حكومة الاحتلال كانت قد بدأت عدوانها ضد القطاع، بعد أن كانت متيقنة أن حركة حماس لن تتدخل، وستترك حركة الجهاد وحيدة، تماماً كما فعلت بعد اغتيال إسرائيل للقائد العسكري في الحركة” بهاء أبو العطا” عام 2019.
صمت حماس والرهان على البديل
حماس تنتظر الجائزة، والتي لا تقتصر على صفقة لتبادل الأسرى، ويبدو أنه لم يعد أمام تنفيذها عائق حقيقي، سوى تمرير الانتخابات الإسرائيلية، فكلاهما “لبيد چانتس”، ونتانياهو يتبنيان نظرية تمكين سلطة الأمر الواقع لحركة حماس “الأمن مقابل الاقتصاد”، كي تستمر حالة الانقسام لغسل اليد تماماً وبأيدٍ فلسطينية من مسألة إقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة على حدود عام 1967، وكلاهما أي فتح وحماس يدركان تماماً هذه الحقيقة، بل ويرددان أنه لا دولة بدون غزة ولا دولة في غزة، ومع ذلك يتركان حالة الانقسام دون حل، رغم ما سبق وقدم لكليهما من حلول تستند لمعادلة “لا غالب ولا مغلوب”، لإنهاء كارثة الانقسام يرتكز جوهرها على طي مرحلة الانفراد بالحكم وبالقرار الوطني من قبل أي منهما، والدخول في عملية سياسية متدرجة تقوم على إقامة حكومة وحدة وطنية تمهيداً لإجراء انتخابات عامة، وتوحيد مركز القرار الوطني بمشاركة حركتي حماس والجهاد في صنعه داخل هيئات منظمة التحرير القيادية باعتبارها ائتلافاً جبهوياً وممثلاً وحيداً لشعبنا، وطي صفحة الاحتراب على التمثيل بين قوى الانقسام، والتي شكلت مقصلة دامية لمكانة الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، ووضعت القضية الوطنية أمام خطر التصفية الجدي.
إخراج غزة من المعادلة الديمغرافية للصراع
حكومة الاحتلال الراعي الحصري للانقسام تقدم الجوائز لحماس، وفي نفس الوقت تبرر اجتياحاتها لمدن الضفة بضعف السلطة الوطنية وعدم قدرتها على القيام بالتزاماتها في مواجهة النهوض الشعبي وعمليات المقاومة المسلحة بطابعها الفردي ضد الاحتلال، وأحياناً داخل الخط الأخضر. السؤال الجوهري هو إلى أين ستذهب حكومة الاحتلال بهذا الواقع الذي خلقته، وهي تدرك تماماً خاصة مؤسستها الأمنية، أنها في الوقت الذي قد تكون فيه قادرة على ترويض القوتين المهيمنتين على المشهد الفلسطيني لخدمة أهدافها، إلا أنها لن تستطيع ترويض وإخضاع الشعب الفلسطيني وإرادة الحرية لديه. مكونات النظام السياسي الأساسية في إسرائيل، والتي انجرفت بصورة واسعة نحو اليمين وأقصى اليمين، تُجمع على رفض إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، وهي تراهن على الزمن واستعصاء حالة الانقسام لترسيم وقائع جديدة أساسها إخراج المليوني فلسطيني في القطاع من معادلة ما تعتبره “الخطر الديمغرافي” على مستقبل إسرائيل، ومسألة الدولة الواحدة، كما تراهن على إمكانية تحوُّل اليأس والإحباط الشعبي لحالة مزمنة قد تمكنها من فرض الأمر الواقع، أو على الأقل امتلاك مساحة زمنية لعقود قادمة في الضفة الغربية، كما سبق وألمح بذلك موشي أرنس قبل سنوات، بانتظار تغيرات إقليمية واسعة.
نحو انتفاضة متدحرجة
إسرائيل وكما في كل محطات الصراع الرئيسية تفشل أو لا ترغب في قراءة حقيقة واقع الشعب الفلسطيني، وعناده الأسطوري لانتزاع حريته، وحقه في تقرير مصيره، حتى في ظل ما يجري من تفكك للحركة الوطنية. إن ما يجري في الواقع هو بمثابة بروڤات متواصلة لانفجار كبير قادم، تفوقت فيه العوامل الموضوعية على ما سبق الانتفاضة الكبرى “ديسمبر/كانون أول 1987″، بينما قواه الذاتية والمحركة تنضج يومياً ببطء شديد، ولكنها تقترب تدريجياً نحو انتفاضة شاملة، ولعل هذا هو الفارق الجوهري بين مرحلة ما قبل الانتفاضة الكبرى واليوم، فاندلاع انتفاضة متدحرجة نحو الشمولية والانتشار سيعني بكلمات أخرى نجاح الحراكات والقوى الناهضة في بلورة حركة وطنية جديدة تقود الكفاح الوطني، مستندة هذه المرة على الوطنية العابرة للفصائلية، بل وربما بديلاً جامعاً لانهيار راهنها الانقسامي.
الوحدة الوطنية أو حركة وطنية متجددة
ادعاء المهيمنين على السلطة الفلسطينية الحكمة في هذا الزمن الهائج مزحة ثقيلة، فالعالم الذي يزداد توحشاً لا يرحم الضعفاء، وعدالة قضيتنا لا تكفي. بناء القوة الذاتية يتناقض مع استمرار الانقسام الذي مكَّن حكومة الاحتلال من المناورة الواسعة لتهميش قضيتنا والانقضاض على حقوق شعبنا، كما أن الانقسام وغياب مرجعيات المساءلة الداخلية ساهم في انتشار الفساد وسوء الإدارة في مؤسسات السلطة، التي تتحول تدريجياً “لدولة بوليسية” تتغول على حقوق المواطنين، وأسس المواطنة بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والمدنية. البديل إما الوحدة الوطنية فوراً، أو حركة وطنية متجددة تنطلق من روح وضمير الشعب وتضحياته في أزقة المخيمات والأحياء الفقيرة في المدن والبلدات والقرى لتصون حقنا في البقاء، وتوفر متطلبات صمود الشعب، وتستنهض كامل طاقاته في معركة التحرر والبناء والاستقلال الوطني.