حسن خضر
تزامنت لحظة حوّارة، غير المسبوقة، مع لحظة أزمة إسرائيلية داخلية بشأن ما يُعرف ب “الانقلاب القضائي”، وغير مسبوقة، أيضاً. والجدير بالملاحظة أن التزامن بين اللحظتين يُعمّق ما لكليهما من دلالات، ويجعل من القبض على معنى الأولى مشروطاً بالثانية، والعكس صحيح.
ثمة مداخل مختلفة للتفكير في أمر كهذا. وأودُ، في سياق هذه المعالجة، تسليط الضوء على اللحظة الإسرائيلية (نتوقف عند اللحظة الفلسطينية في معالجات لاحقة). واللافت في اللحظة الإسرائيلية أن أبرز وأهم دلالاتها، بقدر ما أرى، لا تحظى بما تستحق من اهتمام، رغم ما لها من تداعيات، وما تفسّر من أشياء كثيرة، بما فيها اللحظة الفلسطينية نفسها.
المقصود، هنا، دلالات نوعين من الثقة (أو القناعة، إذا شئت) لدى طرفي الأزمة الداخلية في اللحظة الإسرائيلية. فعلى الرغم أولاً: من سيناريوهات الخوف التي يسعى نتنياهو وشركاه لتسويقها في أوساط الإسرائيليين بشأن مخاطر الفلسطينيين الوجودية، وقنبلة الإيرانيين النووية. وعلى الرغم ثانياً: من النجاحات التي حققها في علاقاته مع الإبراهيميين على نحو خاص، وبعضهم يغني هاتيكفا الآن.
وعلى الرغم ثالثاً: من الازدهار الاقتصادي، والثقل السياسي والعسكري لإسرائيل في الإقليم والعالم، إلا أن هذه الإنجازات، التي تحققت في زمن وجوده في أعلى هرم السلطة على مدار ما يحسب بالعقود الآن، لا تبدو كافية، أو مُقنعة إلى حد يسوّغ لمعارضيه (نصف اليهود الإسرائيليين تقريباً) التغاضي عمّا يشكل هو وشركاه من تهديد لبنية النظام السياسي، وهوية المجتمع، ومستقبل الدولة.
والسؤال الآن: لماذا يصر المعارضون على عدم التغاضي؟
الجواب الذي يجب ألا يكون مفاجئاً لأحد: لأن ثقتهم بقوّة الدولة عالية، ولأن مخاطر الفلسطينيين الوجودية، وقنبلة الإيرانيين النووية، مجرّد ذرائع وهمية في الغالب، ولأن الازدهار الاقتصادي والثقل العسكري والسياسي من علامات قوّة الدولة، لا من شطارة نتنياهو. مربط الفرس في جواب الثقة هذا ومفرداته.
لا ننسى، طبعاً، أن بين المعارضين من يتكلّم عن حماية “الديمقراطية الإسرائيلية” من نتنياهو وشركاه، وبين المعلّقين في الشرق والغرب من يكرر الكلام نفسه. على أي حال، تستدعي “مسألة الديمقراطية” في سياقها الإسرائيلي، وفي اللحظة الراهنة، ملاحظة سريعة:
يعرف العلمانيون أن المحكمة العليا، وقوانين الفصل بين السلطات، تحمي أسلوب حياتهم، وتعزز هويتهم كجزء من الغرب رغم وجودهم في آسيا الغربية، وهم ضد دولة الشريعة اليهودية، إضافة إلى آخرين حتى من المتدينين، لأن مشروع تهويد الدولة والمجتمع يهدد وجود الدولة، سواء نتيجة فقدان حلفاء وحماة تقليديين في الغرب، أو نتيجة الحرب الأهلية. وقد يحدث الأمران في وقت واحد.
لذا، لا يكمن المعنى الحقيقي لمعارضة الانقلاب القضائي في الدفاع عن قيم ديمقراطية أساسية وعامة، بل في حماية أسلوب حياة، ومستقبل دولة. مع ضرورة التذكير بأن احتلال شعب آخر، وحرمان الملايين من بني البشر من حقوق إنسانية أساسية، ناهيك عمّا ينالهم من التنكيل، أشياء صارت كلها جزءً من أسلوب الحياة، وأن مستقبل الدولة لا يتعارض، في نظر الغالبية العظمى من الإسرائيليين، مع واقع الاحتلال.
ولنذكّر، هنا، أن نسبة كبيرة من المعارضين تنتمي إلى الشرائح الأكثر تعليماً وثراء في المجتمع الإسرائيلي، وأن الثمن الذي يدفعه هؤلاء كضريبة للاحتلال لم يعد بالدم، خلافاً لشرائح أدنى تعليماً وثراء (جمهور نتنياهو وشركاه على نحو خاص) يخدم أبناؤها في الجيش، وتدفع ضريبة الدم.
ولعل من المفيد، فعلاً، لفت الأنظار إلى معالجة لامعة لياچيل ليفي، الباحث الإسرائيلي، الذي اكتشف منذ سنوات، وفي معرض تحليل العلاقات العسكرية ـ السياسية، ما طرأ على “تراتبية الموت” في المجتمع الإسرائيلي من تعديل، حيث تراجعت مشاركة الأكثر تعليماً وثراء في دفع ضريبة الدم.
المهم، ان معارضي نتنياهو وشركاه لديهم ثقة عالية بقوّة الدولة، وهشاشة سيناريوهات الخوف، وأن “مسألة الديمقراطية” لا تحظى بالأولوية، ولا يستقيم الكلام عنها دون تحفّظات كثيرة، كما أسلفنا.
ومع هذا كله في الذهن، نتقدّم في اتجاه ما لدى الطرف الآخر، أي معسكر نتنياهو وشركاه، من دلالات الثقة.
يثق هؤلاء، أيضاً، بقوّة الدولة، وهذه الثقة هي التي تفسّر عدم اهتمامهم، أو حتى سخريتهم، من انتقادات معلّقين وساسة أميركيين وأوروبيين للانقلاب القضائي، وتشريعات سبقت كقانون القومية. لذا، وعلى الرغم من فتور قد يطرأ، من وقت إلى آخر، على علاقتهم بحلفاء وحماة تقليديين في أميركا والغرب، إلا أن لديهم قناعة راسخة بقوّة العلاقة، وقدرة الدولة القوية على الدفاع عن خصوصيتها (بتعريف الشريعة اليهودية، كما يأمل شركاء نتنياهو)، وإرغام الحلفاء والحماة التقليديين على القبول بالأمر الواقع.
وبهذا المعنى، وفي سياقه، فإن في صعود موجة اليمين في العالم (وبعض رموزها ينظر إلى إسرائيل كمصدر إلهام) وفي دفع العلاقة بالإبراهيميين إلى مرتبة التحالف العسكري، وفي انهيار الحواضر العربية، ما لا يعزز الإحساس الذاتي بالثقة وحسب، بل ويزيّن في أعين النشطاء الجدد في معسكر اليمين القومي – الديني منافع الاستيلاء على دولة قوية، وتسخيرها لتسديد فواتير عاجلة لا مع الفلسطينيين وحسب، ولكن مع العالم، أيضاً.
لذا، لا ينبغي النظر إلى لحظة حوّارة إلا بوصفها محصّلة منطقية لكل ما تقدّم. وعلى طريق حوّارة ثمة حوّارت. فالاستيلاء على الدولة يمثل الجائزة التي يطالب بها من زادت حصته في دفع ضريبة الدم، ناهيك عن الريادة في الاستيطان، و”إنقاذ الصهيونية التقليدية من الإفلاس”. لحظة حوّارة، في دلالتها الإسرائيلية، هي هذا كله، وهذا كله ما لا يدركه معارضو نتنياهو وشركاه، لأن أسلوب حياتهم أعمى أعينهم.