بقلم: جمال زقوت
أظهرت حادثة مفرق “فصايل” التي أدّت إلى وفاة تسع فتية في عمر الورود من بلدة عقربا، إلى فتح صندوق أسود حول جوانب مختلفة من واقع انهيار الحياة الاقتصادية والاجتماعية ودلالاتها الوطنية والأمنية القاسية. فقد كشفت هذه الحادثة مدى انفلات سوق العمل في مستوطنات الأغوار؛ فبالإضافة للمخاطر الوطنية لهذا السوق والذي يعمل يوميًا على توسيع الاستيطان وأنشطته الاقتصادية التي تبتلع الأرض وتستولي على الموارد الطبيعية التي تشكل حجر الزاوية لأي إقتصاد وطني مستقل، فمن يمر في منطقة الأغوار يلحظ بوضوح لا تُخطئه العين المجردة، مدى التحول في طبيعة المنطقة الجغرافية والديموغرافية، حيث بات الوجود الفلسطيني فيها مجرد جزر معزولة تكاد لا تلُحظ أمام نهوض وتوسع المستوطنات واقتصادها الزراعي وبنيتها التحتية مترامية الأطراف في المنطقة، فإن ذلك كله يجري أيضًا في ظلّ غياب أي جهد لحماية هؤلاء العمال، لاسيما مثل هؤلاء الفتية التي تحرِّم قوانين العمل تشغيلهم.
هنا يبرز سؤال بديهي، وهو كيف تتعامل الحكومة مع قانون رقم (4) لسنة 2010 بِِشأن حظر ومكافحة بضائع ومنتجات المستوطنات؟ وكذلك مع متطلبات دعم ومساندة أهالي الأغوار وباقي المناطق المسماة “ج”، والمهددة يوميًا بالمصادرة والتوسع الاستيطاني؟ ولماذا يجري وضع كافة الاقتراحات والمبادرات ومسودات مشاريع قوانين تطوير الأغوار وتشجيع الاستثمار فيها على الرف منذ سنوات، ولماذا تبخرت الوعود التي قطعت في “مهرجانات ومؤتمرات الكلام” حول تطوير الأغوار و عناقيدها التي سمع الناس بها ولم يروا منها شيئًا. هذا في وقت تفتقر فيه منطقة الأغوار للحد الأدنى من الخدمات وسبل الحياة، بما يشمل الخدمات الصحية أو الإسعاف حتى للمصابين في مثل هذا الحادث، حيث نقلتهم للمستشفيات طائرة هليكوبتر اسرائيلية.
لا يمكن فصل هذه الحادثة المأساوية عن سوق التشغيل الأسود ومقاولات تشغيل العمال، بما في ذلك ما يدفعه العمال من أموال”خاوة” لهؤلاء المقاولين من أجل الحصول على تصاريح عمل سواء كان ذلك داخل الخط الأخضر أو في المستوطنات نفسها. حريّ بالتذكير، أن الجهود التي تبذل لوقف هذه الظاهرة تقترب من الصفر، بل أن هناك من يقول أن مقاولين العمال تربطهم صلات، وربما شراكات، مع متنفذين في السلطة.
هذه المأساة، التي داهمت وهزت المجتمع الفلسطيني، تأتي في وقت تنتشر فيه حالة الفلتان والجريمة في أكثر من مكان، ولعل ما جرى في محافظة الخليل، وغياب أي دور لمؤسسات إنفاذ القانون فيها من ناحية، والتعديات التي تجري على المواطنين من ذات المؤسسات في مناطق أخرى، كما حدث في جنين قبل يومين التي أعادت للذاكرة اعتداءات الأجهزة الأمنية على المحتجين على مقتل نزار بنات و مدى تغول هذه الأجهزة على المواطنين من جهة معاكسة؛ إنما تؤشر بوضوح إلى أن غياب هيبة السلطة، وتمدّد أشكال أخذ القانون باليد باتت تشكل المظهر السائد لواقع الحال الذي ينذر بأوخم العواقب على السلم الأهلي والنسيج الاجتماعي، الذي يتهتك في أكثر من مكان ومجال، وفي معظمه يخفي أجندات صراع على سلطة ممزقة ووهمية وغائبة عن وظيفتها الوطنية والخدماتية الأساسية لتعزيز صمود الناس أولًا وأخيرًا.
صحيح أن عدم سيطرة أجهزة ومؤسسات السلطة الوطنية على الطرق والمناطق التي تقع تحت سيطرة الاحتلال، والذي لا يكترث بحياة الفلسطينيين، يشكل سببًا أساسيًا لهذا الحادث المأساوي، ولكن ألم تنطلق الحافلة التي كانت تقلّ هؤلاء الفتية من بلدة فلسطينية، تعمل فيها مؤسسات مدنية وأمنية فلسطينية بغض النظر عن قوتها أو ضعفها؛ وهنا يبرز سؤال كبير إزاء مضمون دور المؤسسة الأمنية وعقيدتها، وهل هي لحماية المواطنين والمجتمع، أم بات يقتصر دورها على شيءٍ آخر يجب التوقف أمامه لتصويب طبيعة العقيدة الأمنية؟ وهذا كما يتضح يوميًا من ممارسات بات واقعًا لا يمكن احتمال استمراره.
إن غياب الرقابة والمساءلة التشريعية الناجمة عن حالة الانقسام، ورفض اجراء الانتخابات العامة، تشكل السبب الجوهري لتمدد حالة الفلتان إزاء احتياجات أمن المواطن والشعور بالأمان من خلال تصويب دور المؤسسة الأمنية، ويزيد الطين بلّة حالة الانقسام والصراع الداخلي وتسلل المقولة الإسرائيلية بأن القوى المناوئة للسلطة، لا سيّما حماس، تسعى للانقلاب على السلطة والسيطرة على الضفة، الأمر الذي يؤدي لتأجيج هذا الصراع، وحرف اهتمام مؤسسات السلطة الأمنية عن دورها الرئيسي في حماية المواطن والمجتمع، إلى اللهاث خلف ما تسرّبه الأوساط الاسرائيلية لتعميق الصراع الداخلي بدلاً من وضع حد له. فحتى لو ظهرت حوادث كهذه، فإن معالجتها يجب ألّا تتم إلا لأن إطار القانون وعلى الجميع بصورة عادلة، وأن المعالجة الجذرية هي معالجة سياسية بالدرجة الأولى وليس أمنية.
ذلك كله، وغيره من قضايا، يُظهر مدى الحاجة لمعالجة جذرية تضع حدًا للتفرد والانقسام وطغيان المصالح الخاصة على المصالح الوطنية في مختلف جوانب الحياة اليومية. إن استعادة الوحدة الوطنية وتوحيد المؤسسات الرسمية للنهوض بدورها، وإخضاعها للقانون والمساءلة يشكل الخطوة الأولى لمعالجة انتشار سرطان الفلتان بأشكاله المختلفة، والتي لن تكتمل ما لم يتم إعادة تصويب بوصلة الصراع مع الاحتلال الاستيطاني الإحلالي، حينها سنكون قادرين على استنهاض طاقة شعبنا نحو الحرية والخلاص من الاحتلال. فضبط قانون معادلة الصراع هو البوصلة التي ستعيد ترتيب كل قواعد حياة الناس، وتضع حدًا لحالة التآكل الذاتي التي تلتهم قضيتنا المقدسة. فهل آن الأوان لصحوة وطنية توقف هذا الانهيار، والبدء بإعادة بناء الوحدة على أساس الربط الدقيق بين مهمتي الكفاح الوطني والبناء الديمقراطي لمجتمع كان دومًا قادرًا، وبدون سلطة وحكومة، على القيام بذلك؟!