جمال زقوت
ممّا لا شك فيه أن الثورة الفلسطينية المسلّحة والانتفاضات الشعبية المتتالية، سيّما الانتفاضة الكبرى لعام 1987، كانت قد وضعت القضية الفلسطينية في مركز الاهتمام الإقليمي والدولي، وانتزعت، بجدارة، الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلًا شرعيًا لشعب فلسطين وناطقًا وحيدًا باسم قضيته في كافة المحافل الدولية والعربية والإقليمية. والذي كان ذلك نتيجة للصمود الشعبي والسياسي في وجه كل محاولات التصفية والقفز أو الالتفاف على الحقوق الوطنية لشعبنا. ولكن منذ أن استعجلت قيادة المنظمة “نبذ العنف” ودخلت مسار التسوية لمجرد الاعتراف بها؛ فقد انتقلت بذلك ممّا كان يسمى بالشرعية الثورية إلى محاولة ولوج شرعية الإنجاز عبر التسوية، وكان ذلك بمقاربة هي أقرب لمقامرة الروليت الروسية بالموافقة على ما أطلق عليه حل الدولتين أي التنازل عن حوالي 78% من أرض فلسطين التاريخية، مقابل احتمال الحصول على دولة مستقلة على أرض الضفة والقطاع حيث لا ضمانات ملزمة لذلك. وقد تصرفت القيادة الفلسطينية وكأن الوصول لمثل هذا الحل سيكون “أمرًا حتميًا”، سيّما أنه تضمّن تنازلًا تاريخيًا بالاعتراف ليس فقط بإسرائيل كحقيقة سياسية، بل باعتراف قيادة المنظمة من خلال ما عُرف برسائل الاعتراف المتبادلة بحق إسرائيل بالوجود بأمن وسلام، مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. هذا النوع من الاعتراف المتبادل هو في الواقع يمكن أن يطلق عليه “الاعتراف الذهبي”؛ فهو يحمل اعترافًا بالرواية التوراتية على حساب الرواية الفلسطينية، وما اعتراف إسرائيل بالمنظمة سوى لتأكيد “مشروعية” الاعتراف الفلسطيني بذلك، لأنه دون هذا الاعتراف فلا قيمة قانونية لاعتراف المنظمة بحق إسرائيل بالوجود.
هنا كان المنعطف الذي لم يجرِ التعامل معه بمستوى الخطورة على مستقبل القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، و ما كانت تخفيه إسرائيل مقابل منح شرعية الاعتراف الإسرائيلي بالمنظمة، وكأن إسرائيل التي كانت تدرك مأزق قيادة المنظمة وعزلتها، سيّما بعد حرب الخليج الأولى، وبدايات انهيار الاتحاد السوفيتي و المعسكر الاشتراكي، والاختلال الفادح بموازين القوى، فقدّمت لها شبكة خلاص دون أن تلتزم اطلاقًا بالحقوق الوطنية الفلسطينية، على الأقل كما عرفتها الشرعية الدولية، وخاصةً حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وحق اللاجئين بالعودة وفق القرار 194.
لقد شكّل هذا الأمر بداية تحول في مفهوم مصدر الشرعية، حتى لو كان ذلك يمسّ بالرواية التاريخية للشعب الفلسطيني في هذه البلاد. صحيح أن منظمة التحرير، بما كانت تمتلكه من شرعية ثورية وبعضٍ من شرعية الإنجاز، اعتبرت نفسها المرجعية العليا للسلطة الوطنية، كان ذلك في اجتماع المجلس المركزي في اكتوبر 1993 الذي صادق على اتفاقية إعلان المبادئ بعد التوقيع عليها في واشنطن في 13سبتمبر 1993، ولكن سرعان ما تآكلت مكانة المنظمة لصالح السلطة التي باتت حبيسة الانفكاك الإسرائيلي عن الجدول الزمني للمرحلة الانتقالية “لا مواعيد مقدسة” ثم التخلي الكامل عن مضمونها، فلم يتبقى من السلطة سوى دورها الإداري المحدود، والتزامها بحماية المصالح الأمنية الإسرائيلية دون أي اعتبار للمصالح الأمنية أو السياسية الفلسطينية.
مناسبة هذا الكلام ليس فقط مرور 28 عامًا من اللّهاث خلف سراب أوسلو، كما أظهرت تجربة هذه السنين الطويلة الماضية، ولكنها بمناسبة “العود على بدء” بالتمسك مرةً أخرى بهذا الوهم، حيث مطالبة قيادة السلطة مجددًا بالتزام إسرائيل بالاتفاقات الموقعة، والأسوأ دون أي جدول زمني يعيد تحديد إطار ومضمون تلك الاتفاقيات سيّما أن إسرائيل حولتها من اتفاقيات انتقالية لمدة لا تتجاوز “3-5 سنوات”، وكان من المفترض أن تنتهي عام 1999، إلى مرحلة انتقالية مفتوحة دون أن تلتزم بأيّ مما ورد فيها سيّما البنود، المتعلقة بالأرض وجداول الانسحابات التي كان يجب أن تستكمل حتى مارس 1997، وتشمل جميع المناطق المسماة ب، و ج، ومفهوم السيطرة والسيادة، عندما كسرت كل هذه القواعد الهشّة في 28 سبتمبر 2000، حيث أعادت فرض مفهومها الخاص حول هذه القواعد، تاركة للسلطة فقط حق القيام بمسؤولياتها لما كان عبئاً على الاحتلال إزاء احتياجات من تعتبرهم إسرائيل “سكانًا مقيمين”، وليس مواطنين أصليين لهم حقوق وطنية يجب الإقرار بها كمقدمة لأي بحث في مستقبل ما يمكن تسميته تسوية أو حلول سياسية.
ولعلّ التاريخ يعيد نفسه اليوم على شكل مأساة، عندما تعلن إسرائيل عن استعدادها للقيام بكل ما هو ممكن لمنع انهيار ليس السلطة الوطنية، “باعتبارها كانت يومًا انجازًا وطنيًا انتقاليًا نحو إنهاء الاحتلال”، بل لحماية قيادة السلطة من السقوط بفعل تخلّيها عن الشرعية الثورية وعدم قدرتها على تحقيق شرعية الإنجاز، وكذلك ارتدادها ونكوصها عن الالتزام بشرعية صندوق الاقتراع وحق الناس في انتخاب قيادتهم؛ فلم يتبقَّ للسلطة التي باتت تُهيْمن على المنظمة سوى اللّهاث خلف استمرار شرعية الاعتراف الإسرائيلي، ومن خلفها الولايات المتحدة، لمجرد تمكينها من البقاء للاستمرار بالوظيفة الإدارية والأمنية التي تحددها إسرائيل، هذا في وقت تعلن فيه حكومة بينت أنه لن يكون هناك مفاوضات أو مسارًا سياسيًا، لا الأن، ولا في المستقبل، والذي يعني صراحة من وجهة نظرها والاستراتيجية السياسة المعتمدة لديها وتحكم حركتها السياسية، وتنطلق منها في التعامل مع الفلسطينيين، بان لا حقوق وطنية يمكن الحديث عنها معهم بأي شكلٍ كان، وأن أقصى ما يمكن لها أن تقدمه هي إجراءات إدارية “تسهيلات”، وبالمناسبة هي حقوق منصوص عليها في الاتفاقات المتآكلة “مثل لمّ الشمل والحق في تغيير عنوان السكن”، والتي تقدمها إسرائيل وكأنها منح أقرب للرشوة، وتُروّج لها السلطة باعتبارها إنجازات مفصلية، وكذلك قروض مالية هي في الواقع أموال فلسطينية تسرقها إسرائيل من عائدات الشعب الفلسطيني المستحقة من أموال المقاصة. ومرةً أخرى ذلك كله لضمان بقاء قيادة السلطة في موقعها، ومن أجل أن تستمر في مواقفها المعلنة بالمماطلة واستخدام الذرائع لعدم إجراء الانتخابات، وتستمر بوضع العصي في دواليب متطلبات اجاز التوافق على حكومة وحدة وطنية انتقالية لحين إجراء تلك الانتخابات، وذلك بالإصرار على ضرورة التزام حماس المسبق بشروط الرباعية كشرط لمجرد تجديد الحوار معها؛ الأمر الذي يبقي على استمرار تعمّق حالة الانقسام وخطر تحوله إلى انفصال. هذا بالطبع لا يعفي حماس إطلاقاً من استمرار التمسك بسياستها الانقسامية التي ترى في ضعف السلطة فرصة مؤاتية لها للهيمنة الشاملة على احتكار التمثيل الوطني، وليس مسؤولية وطنية جماعية تقتضي المعالجة المشتركة لحمايتها من خطر الانزلاق نحو التصفية والتفريط.
السؤال المطروح بصورة ملحة هو، هل حقاً، وبعد هذه السنين الطويلة والمواقف المعلنة من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وفي ظل استمرار حالة الضعف بفعل الانقسام والفجوة التي تتّسع بين القيادات المهيمنة والناس، يمكن الاستمرار في قيادة شعب قدّم كل هذه التضحيات من أجل انتزاع الحرية والخلاص من الاحتلال؛ بذات الاستراتيجيات المنقسمة والفاشلة، وبالاستناد إلى “شرعية” يمنحها لها الاحتلال على حساب شرعية الحق في رفض الاحتلال ومقاومته المشروعة، وشرعية الإنجاز لاستعادة ثقة الشعب بقيادته، وكذلك على حساب شرعية الانتخابات المستحقة منذ سنين!
دون تعليق أية أوهام على مدى استعداد وجاهزية الأطراف المهيمنة على المشهد العام لمراجعة عوامل فشل استراتيجياتها، وسبل عودتها لجادة الصواب وحظيرة الوحدة الوطنية ومؤسساتها الجامعة، وهو طريق معروف وقد تمّت معالجته أكثر من مرة. فلم يبقَ أمام الشعب الفلسطيني سوى استمرار الصمود على الأرض ومواصلة النضال المرّكب بكل تعقيداته من خلال أوسع ائتلاف وطني ديمقراطي ضد الاحتلال لانتزاع الحرية، وتعميق النضال الديمقراطي لتغيير قواعد وأسس الحكم لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني بالعودة للوحدة الوطنية والبناء الديمقراطي في مواجهة نهج التفرد واقتسام الفتات الذي تقدمه إسرائيل على ضفتيّ الانقسام. هذا الطريق هو الذي يعيد بناء الشرعية الثورية والشرعية الانتخابية واللّتان تفتحان الباب مجددَا لشرعية الإنجاز الذي يتلخص بتعزيز القدرة على الصمود والبقاء لمواجهة مخططات الاحتلال حتى رحيله وانتزاع الحق في تقرير المصير بكل مكوناته.
جدير بالتأكيد على أن كل من راهن أو يراهن على أن ضيق سبل حياة الناس، وطغيان همومها المعيشية بفعل سياسات الاحتلال وواقع الانقسام، أو بفعل ما يجري من عمليات تهجير قسرية لتجمعات الشعب الفلسطيني خاصةً في سوريا ولبنان، سينسيها جوهر قضاياها الوطنية المتصلة بتهويد القدس أو مصادرة الأرض أو حق العودة، فهو واهم ولا يعرف معدن الشعب الفلسطيني، وقد أكدت التجربة الوطنية مصداقية هذه المقولة في العديد من المحطات.