د. طلال أبو ركبة
عملت إسرائيل مبكراً على الاستثمار السياسي لأحداث السابع من أكتوبر، بمحاولة وصفها حدثا منفصلاً عن السياق الطويل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وحشدت كافة طاقاتها العسكرية والسياسية والإعلامية لتبني العالم لهذا الوصف من ناحية، وكمدخل لإعادة ترتيب الإقليم بأسره وفق الرؤية الإسرائيلية لمستقبل الشرق الأوسط.
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي واضحاً منذ البداية في رسم توجهاته السياسية لهذه الحرب، وهو يصفها بأنها حرب الاستقلال الثانية، والتي يتوجب على إسرائيل فيها الانتصار مرة أخرى على كافة أطراف محور “الشر” بالمنظور الإسرائيلي، كما انتصرت في حرب الاستقلال الأولى على الجيوش العربية، وأقامت دولة إسرائيل عقب نكبة آيار 1948.
تحاول إسرائيل توظيف هذه الحرب في إنهاء الصداع المزمن الذي تعاني منه في الإقليم نتيجة رفض ومقاومة محور الممانعة للسلوك الإسرائيلي، ومن أجل ذلك ذهبت إلى ممارسة لعبة الشطرنج القاتلة في الإقليم مستفيدة من التغطية الأمريكية لكافة الجرائم الإنسانية التي ترتكبها على مرأى ومسمع المجتمع الدولي.
ذهبت إسرائيل في حرب الإبادة الممنهجة التي تمارسها في الأراضي الفلسطينية وتحديدا في قطاع غزة إلى حسم المسألة الفلسطينية مرة واحدة، وإنهاء الصداع المزمن الذي يتسبب فيه الوجود الفلسطيني على الأرض من إبقاء القضية الفلسطينية حية، لذلك لجأت إسرائيل إلى تقويض كافة الهياكل الاجتماعية والمؤسساتية والقانونية، لوضع الفلسطيني في حالة طارئة، تصبح مع الوقت وضعا روتينيا يحاصر المواطنين في الأراضي الفلسطينية. من خلال إغراق المجتمع الفلسطيني في حالة من عدم اليقين والتشتت والضبابية بشأن مصيره الوطني والمخاطر والتهديدات المستقبلية التي تحيط بالمستقبل الوطني الفلسطيني.
لجأت إسرائيل لتحقيق ذلك إلى تعمد صناعة القتل والاغتيالات الجماعية، لتحقيق اقصى قدر ممكن من الدمار والخسائر البشرية، وتجريد الفلسطينيين من أي فرصة للنجاة والحفاظ على أمنهم الجسدي والاجتماعي. وذلك من خلال تعمدها تقطيع أوصال قطاع غزة، وعزل السكان عن بعضهم البعض من خلال حاجز نتساريم والذي فصلت من خلاله جنوب القطاع عن شماله، بعد أن فرضت حالة النزوح الجماعي لسكان شمال القطاع نحو المناطق الإنسانية (وهماً) في جنوبه، ومنع عودتهم نهائيا إلى بيوتهم وأحيائهم في شمال القطاع، بل وفرضت أيضا سياسة التجويع الممنهج لإجبار من تبقى من سكان شمال الوادي على النزوح اضطراريا نحو جنوب القطاع لإفراغه بشكل كامل من سكانه.
تعمل إسرائيل على مدار اللحظة إلى إعدام كافة المساحات الآمنة أمام المواطن الفلسطيني، وذلك لإحداث فراغ كبير وممنهج ليتسرب الخوف على الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية والذي اعتبر على الدوام العامل الرئيسي والركيزة الجوهرية لإدامة القضية الفلسطينية حية، وباتت تعتمد على تسريب ونشر الخوف في أوساط الفلسطينيين إلى حد صارت معه ثقافة الخوف سمة سائدة لدى الشعب الفلسطيني، شأنه شأن كافة الشعوب المستعمرة الأخرى.
في إطار ذلك كله بدأت إسرائيل بالترويج إعلاميا لخطة الجنرالات والقاضية إلى افراغ شمال قطاع غزة من سكانه واستكمال عمليات الطرد والمحو والإزالة بحق ما يقارب من (300-500) ألف مواطن صمدوا في شمال القطاع رافضين النزوح، وتحملوا على مدار عام كامل كافة سياسات البطش والقتل والتنكيل والتجويع والتعطيش التي مارستها قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ اللحظات الأولى للحرب.
تأتي خطة الجنرالات والتي طرحها الجنرال السابق إيغور لاند الباحث في مركز الأمن القومي، وتبناها لاحقاً مجموعة من الجنرالات، في ضوء الفشل الإسرائيلي حتى اللحظة في الحصول على صورة النصر المطلق الذي حدده نتنياهو بثلاثة أهداف رئيسية تمثلت في تفكيك قدرات فصائل المقاومة العسكرية، واستعادة الرهائن، واستبدال حكم حماس بهيئات حكم محلية، تمنع من خلالها إسرائيل إعادة توحيد الأراضي الفلسطينية، وتحافظ من خلالها على فصل القطاع عن مصير باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس، وإخراج القطاع بالتالي خارج السياق الوطني الفلسطيني الجمعي.
تقضي خطة الجنرالات إلى إفراغ شمال القطاع من سكانه، ومنع إدخال أياً من المساعدات، وذلك لمحاصرة المقاومين في الأنفاق بقوة النيران وسياسة التجويع، وذلك لدفعهم لخيار الموت جوعا، أو الاستسلام للقوات الإسرائيلية. وبالتالي تتمكن إسرائيل من القضاء على كافة جيوب المقاومة في شمال غزة، وتنظيفها بشكل كامل، وهو ما يمهد الأمر لاحقا لضم شمال القطاع للأراضي الإسرائيلية وإلحاق مدينة غزة بأخواتها من مدن الساحل اللواتي سبقوها في العام 1948. وتعيد الاستيطان لغزة من جديد بعد أن كانت قد غادرته في العام 2005 عقب الانسحاب أحادي الجانب في ذلك الوقت.
خطة الجنرالات ليست بعيدة عن الطرح الإسرائيلي الذي حاولت إسرائيل فرضه في الأيام الأولى لحرب الإبادة، عندما اقترحت تهجير سكان القطاع إلى الأراضي المصرية لحين انتهائها من الحرب مع فصائل المقاومة ومن ثم عودتهم لاحقا لبيوتهم عقب انتهاء المعركة، وهو الأمر الذي لاقى رفضا فلسطينيا جمعيا، باعتبار أن ذلك الطرح ليس إلا خديعة إسرائيلية لفرض التهجير القسري على السكان، وبالتالي التخلص من الوجود الفلسطيني في قطاع غزة وللأبد، إضافة للموقف الرسمي الحاسم في هذه النقطة والذي اعتبر أن عملية التهجير للأراضي المصرية مسألة حساسة ومرتبطة بالأمن القومي المصري، مما دفع إسرائيل للتراجع عن هذا الخيار، ولكن دون انهائه.
ترتكز خطة الجنرالات في جوهرها على الرؤية الإسرائيلية القديمة الحديثة لإنهاء المسألة الفلسطينية، والتي تكمن في الوطن البديل الذي يستوجب على الفلسطينيين الذهاب إليه، ولدى الفلسطينيين العديد من الأوطان التي يمكنهم الذهاب إليها في العالم العربي، ولطالما كانت الأردن هي الطرح الإسرائيلي الأساسي في هذا الخيار لعوامل عدة لا يستع هذا المقال لذكرها، فإسرائيل في جوهرها تحاول من خلال هذه الخطة ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، الأول هو احياء فكرة الوطن البديل والتي طرحت تاريخيا في أعقاب النكبة في الخطاب الإسرائيلي، ولكي تنجح في ذلك فأن غزة تشكل نقطة البداية في عمليات الطرد والإزالة، ومن ثم يكون الانقضاض على الضفة الغربية وافراغها من سكانها باتجاه الأردن.
تهدف خطة الجنرالات في جوهرها إلى إشاعة الخوف وتدفقه في الذاكرة الجمعية والخيال الجمعي للكل الفلسطيني، الأمر الذي من شأنه أن يساعد على تفكيك المجتمع الفلسطيني، وتمزيق نسيجه الاجتماعي من خلال زرع الشك وعدم اليقين بين أفراده على قدرته على التصدي للمحاولات الإسرائيلية، وبالتالي زعزعة استقرار العلاقات الاجتماعية في ضوء واقع إنساني كارثي ومأساوي في قطاع غزة، يضاف إليها هيمنة عقل انقسامي فئوي في التعاطي مع الحرب الإسرائيلية، وغياب واضح لجبهة إعلامية فلسطينية قادرة على مخاطبة الجمهور وتعزيز صموده ومناعته الوطنية.
بات واضحا أن ما تسعى إليه إسرائيل وهي تمارس بنرجسية عالية لعبة الشطرنج القاتلة مع المواطن الفلسطيني، هو تحويل حالة الخوف لديه إلى واقع معاش ودائم، بحيث تتحول فيه حياة الفلسطينية من الحالة الطارئة إلى وضع طبيعي وروتيني وعادي، الأمر الذي من شأنه أن يسهل تمرير الكثير من السياسات التي تريدها من خلال استدامة المعاناة، وتحويل الكل الفلسطيني إلى متلقي للأحداث وليس صانعا أو مقررا لها.
نجاح الخطط الإسرائيلية مرهون مرة أخرى بالقدرة والرغبة الفلسطينية إن وجدت على مواجهة كافة محاولات الاقتلاع والتشريد، والتي لا يمكن مواجهتها إلا من خلال استعادة الوعي الجمعي والوحدوي الفلسطيني، وتوحيد الجهود الفلسطينية والاستثمار في الإنسان الفلسطيني الصامد في خيام النازحين في كافة أنحاء قطاع غزة، وتوحيد سبل المواجهة في كافة التجمعات الفلسطينية بما يتناسب وقدرات كل تجمع بما يفتح الصراع على مصراعيه، ويبطل مفاعيل السياسة الإسرائيلية الرامية للاستهداف المنفرد بكل تجمع بمنأى عن الأخر، والانتباه إلى القول المأثور “أوكلت يوم أوكل الثور الأبيض”، فلا تتركوا غزة لتكون ذلك الثور الأبيض….!