جمال زقوت:
انتهت جولة الأيام الخمسة الأخيرة لحرب الاقتلاع الممتدة منذ النكبة. وهذه المرة أيضاً بإعلان التوصل إلى تهدئة أو هدنة يتوقف فيها القتل مؤقتاً بعد أن أضيفت أسماء جديدة على قائمة الشهداء والأيتام والأرامل والعائلات الثكلى، والتي بات بعضها دون مأوى.
غزة التي يقطنها حوالي مليوني فلسطيني أكثر من خمسة وسبعين بالمئة منهم لاجئين هُجِّروا من بيوتهم في العام 1948، ولم يكن أياً منهم، بعد أن ضُللوا بأن عودتهم بعد أسابيع قليلة، يتوقع أن جولات تلك الحرب العدوانية ستمتد لأحفادهم وأحفاد أبنائهم وأحياناً لأحفاد أحفادهم، ليقاتلوا فيها بحثاً عن وطن يمزقه البعض في صراع على سلطة لم يتبق من رصيدها سوى قضم رصيد وتضحيات غالية ما زال شعبنا يقدمها على مذبح حريته.
غزة التي شقت طريقها منذ أيام النكبة الأولى في مخيمات اللجوء القاسية، ها هي اليوم وفي ذكرى النكبة تعيد تجديد قسمها على المضي بنضال لم يتوقف يوماً، وهي تروي الأرض بدماء زكية من خيرة أبنائها. أما المفارقات الكبرى فهي أن زمن غزة الذي قاد ثورة اللجوء الفلسطيني وفجر نفق عيلبون وأنجب خيرة القادة المؤسسين، وجدت نفسها في هذه الجولة وحيدة حتى من حكامها الذين بات همهم مجرد البقاء في حكم أهل غزة، أو خارج التأثير على مصيرهم.
فلسطين تحيي ذكرى النكبة التي تعيشها قضية شعبنا على كل بقعة من وديانها وجبالها وسهولها .. في الجليل والمثلث والنقب، ومن القدس العاصمة إلى كل ثغور البلاد، وفي كل بقاع اللجوء في شتات العواصم. إلّا أن غزة التي ظلت وفيّة لفلسطين، فقد أحيت ذكرى النكبة هذا العام على طريقتها مزنرة بإرادة الأحرار، وأعلنت مجدداً رسالتها الممتدة منذ خمسة وسبعين عاماً، بأن فلسطين التي أرادوا شطبها عادت وتعود، وهي عصية على الكسر رغم ” حكمة أو سبات “من نصبوا أنفسهم حكاما عليها وانشغلوا عن دماء أبنائها، وعن قسم المؤسسين لثوراتها وانتفاضاتها وهباتها المستمرة حتى يلوح أفق الحرية القادم مع فجر ذات صباح.
لم تسعَ غزة لهذه الجولة من الحرب، فقد كان أهلها منشغلين في البحث عن لقمة عيش على تخوم أسلاك الحصار الشائكة، تماماً كما لم تسعَ حركة الجهاد لسلطة أو لصراع على فتاتها، وآثرت الكلام بلغة الكبار، فلم تعاتب من تركوها وحيدة، حيث غادر بعضهم البلاد وبلع لسانه كي لا تجبره رائحة الدم على الكلام، كما ابتلعت ذات الأرض عنتريات الآخرين وصاروا أسياد “فلسفة الحكمة” بعد أن فشلوا في الحكم.
كانت لغة الناطقين وعلى غير عادتهم العنترية تشي بتعليمات مليئة “بحكمة طارئة”، وقد قلنا حينها ” إذا كانت الحكمة هي سيدة الموقف، فليكن! ولكن لماذا لا تُمدُّ على استقامتها بما يستجيب لتطلعات شعب يحلم بوحدة تلوح براعمها في الميدان، ولكنها تُصدُّ برياح المصالح الأنانية الفوقية عندما تقترب من صنّاع الانقسام”. ومع ذلك يبدو أن معادلات ما بعد الجولة ليست كما قبلها، فهي الجولة الثالثة التي تترك فيها حركة الجهاد وحيدة ولم تكن هي المبادئة. ولكنها هذه المرة قررت أن تقول أن الهزيمة ليست قدراً، رغم أنها لم تتغنَ بانتصار لم يأتِ بعد.
الكلام الذي يردده الفلسطينيون وهم يحييون ذكرى نكبتهم لكل من قيادتي سلطتي الانقسام: “في كل مرة يثبت شعبنا أنه أكبر من قياداته، وإن كنتم غير قادرين على الوفاء بحمل راية العودة والحرية وتقرير المصير، فاتركونا نعيد كتابة تاريخنا، ونعيد تعريف نكبتنا التي بدأت بجرائم الحركة الصهيونية والتواطؤ الدولي والتخاذل العربي، وها هي للأسف ما زالت مستمرة بفعل هيمنتكم الانقسامية على حساب المصالح العليا لشعبنا” .
وتبقى دروس هذا المعركة شاخصة تدق جدران الخزان للتعامل معها بجدية سواء ازاء حقيقة أن العدوانية الاسرائيلية مهما طغت فلن تكون يوماً قادرة على ردع تمسك شعبنا بوطن الآباء والأجداد، أو لجهة متطلبات بناء جبهة فلسطينية عريضة وموحدة تعيد الاعتبار لمؤسسات الوطنية الجامعة لتأخذ على عاتقها مسؤولية حماية قضية شعبنا، وتعزيز صموده وقدرته على البقاء.