جمال زقوت
لم تمر أيام قليلة على توقف القتال، وما رافقه من توحيد واسع للشارع الفلسطيني، إلا وعادت مجددًا حالة الاستقطاب والتوتر في العلاقة بين السلطة وحماس، وأخذ التباين هذه المرة أبعاداً مسّت بشكل مباشر معنويات الناس، بل وبدأت في التأثير على وحدة موقفهم ودورهم. من ناحية، اتّسع كثيرًا خطاب المبالغة بالنصر، وامتلأ عند البعض بخطاب الفئوية، أو اقتصر على دور أجنحة وفصائل المقاومة دون أي إشارة لمقاومة وصمود الشعب ودوره الحاسم في تحقيق هذا الإنجاز، بما فيها التحولات الكبرى التي تحدث وتتواصل على صعيد الرأي العام العالمي. ومن ناحية اخري، فقد غلب على الخطاب الرسمي الفلسطيني محاولات التقليل من شأن نتائج الصمود وما أظهرته المواجهة من قدراتٍ عسكرية لأجنحة المقاومة المسلحة وبُنيتها، وإمكانيات استثمار هذا المتغير في مستقبل الصراع.
لقد تراجع الاهتمام بمعالجة الشأن الداخلي ومتطلبات إحداث التغيير الضروري في بُنية ومكونات النظام السياسي وإجراء مراجعة ومعالجة جادة لأزمته المستفحلة وعزلته الشعبية المتزايدة منذ سنوات، والتي وصلت حافة الانفجار بعد الإعلان عن تأجيل الانتخابات دون تقديم بديل موضوعي لاستعادة الوحدة والأمل معًا.
في خطابه للإعلان عن “مسوغات تبرير تأجيل الانتخابات” أشار الرئيس عباس، وإن كان مرورًا، إلى إمكانية تشكيل حكومة وحدة وطنية، وبعد صمتٍ طويل أثناء الحرب من معظم المتحدثين الرسميين، تحول هذا الخطاب إلى مجرد إشارة إلى حكومة وفاق، ثم تراجع أكثر وصار حول حكومة وفاق تلتزم بشروط الرباعية، وأخيراً حكومة وفاق مقبولة دولياً، وذلك شريطة أن توافق حماس أيضاً على الشرعية الدولية، بما يعني ضرورة موافقة حماس على الشروط دون مشاركتها المباشرة في الحكومة.
وتيرة هذا الخطاب كانت تتراجع بشكل مطّرد كلما شعرت السلطة الوطنية بالاهتمام الدولي، سيّما من قبل الولايات المتحدة، بدور ومكانة السلطة وإشاراتها المتكررة حول ضرورة عدم استفادة حماس من عملية إعادة الإعمار في قطاع غزة، واقتصارها على السلطة الرسمية والشركاء العرب “مصر وقطر”.
هذا التجاذب، وحميَّة الاستقطاب الخفيّ، يهدد في مقتل أهم إنجازات المواجهة وما ترافق معها من انتفاضة شعبية موحدة في طول البلاد وعرضها، وما سبقها من هبّة في حي الشيخ جراح وساحات الأقصى، والأهم ما حملته هذه الانتفاضة والمواجهة والهبّة من تحولات عميقة في الرأي العام الدولي، وقبل ذلك وبعده من أمل وإرادة شعبية لِطَيّ صفحة الانقسام واستعادة وحدة البلد والقضية. وهنا “مربط خيلنا” كما يقولون، بل فإن ذلك يعتبر حجر الزاوية لإخراجنا جميعًا من عنق الزجاجة، والذي بدونه لا يمكن استثمار أي من الإنجازات التي تتحقق، بل وربما سيتم تبديدها والتفريط بالتحولات الجارية على الصعيد الكوني من قوى التضامن الدولي، بما فيها داخل الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، بربط مسألة الاحتلال ومخططات وسياسات التمييز العنصري ضد مكونات الشعب الفلسطيني وحقوقه الطبيعية في الحرية وتقرير المصير، بما يشمل الأرض المحتلة منذ عام 1948، مع نضال القوي التقدمية الكوني ضد العنصرية والكراهية، ومطالبة هذه القوى بمسائلة إسرائيل على ممارساتها العنصرية وجرائمها، ومطالبة حكوماتها بوقف تصدير السلاح لها. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أهمية إصدار مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قرارًا بتشكيل لجنة تحقيق دولية دائمة ومستقلة؛ حيث أعلن المجلس “تبنّي قرارًا بإنشاء لجنة للتحقيق في الانتهاكات والتجاوزات لحقوق الأنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية وفي إسرائيل”. وقد أبرز هذا القرار في أحد أهم جوانبه الإشارة للتحقيق في الانتهاكات الإسرائيلية داخل الأرض المحتلة عام 1948، والجهد الفلسطيني لإنجاز هذا القرار كان ثمرة تعاون فريد بمبادرة من بعثة فلسطين لدى الأمم المتحدة في جنيف بالتعاون مع لجنة المتابعة العربية في الداخل وشبكة منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية. ذلك كله تعبيرٌ عن إرادة الوحدة والانتصار للضحية، الأمر الذي أكّد مجددًا أنه بالإمكان تحقيق إنجازات نوعية عندما يتمّ التمسك بالوحدة الشعبية والميدانية، وتطوير تكاملها مع الموقف السياسي والدبلوماسي. هذا نموذج علينا التمسك به وتعميمه والبناء عليه.
لا يمكن للجهود العربية والدولية أن تتمكن من تثبيتٍ دائم لِما يسمى “وقف اطلاق النار” والخروج من هذه الدائرة الجهنمية التي شهدناها عبر أربعة حروب سابقة، أو النجاح في حشد الدعم لتنفيذ خطط إعادة إعمار قطاع غزة، دون التصدّي للمخططات الإسرائيلية لتمزيق الكيانية الفلسطينية بإدامة الانقسام ومحاولات تكريسه بانفصال دائم، كما أنه إذا استمر مشهد التجاذبات الداخلية من قِبل الأطراف المهيمنة على المشهد الداخلي الفلسطيني، ودون تسليم الجميع محليًا وإقليمياً ودوليًا بكون الوحدة الوطنية الفلسطينية ومؤسساتها الجامعة هي صمام أمان إنجاز هاتين المهمتين، والأهم بالنسبة لنا كفلسطينيين، أنها المدخل لوضع حد لمخططات “إسرائيل” من الاستمرار بحروب يمكن وصف هدفها بحروب استكمال النكبة من خلال تكريس الانفصال كمقصلة حاسمة للحقوق التاريخية في الصراع بين المشروع الاستعماري العنصري والمشروع الوطني لاستعادة وحدة الهوية وتجسيد الحق في العودة وتقرير المصير.
إن الإقلاع عن التعامل مع نتائج المواجهة، وكأنها أداة لتغيير توازن القوى الداخلية، وليس خطوة أو محطة في تعديل ميزان القوى بين الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وتجمعاته من ناحية وبين الاحتلال الإسرائيلي من ناحية ثانية، يُشكل أولوية عليا لمنع إسرائيل من الانقضاض على هذه المنجزات والنجاح في تقويضها، وما يستدعيه ذلك من الافتراق نهائياً مع استراتيجية استرضاء المحتل، أو استمرار الخضوع لما يُسمّى بشروط الرباعية، والتي لا تشكل سوى ابدأه لاستمرار الانقسام وتعطيل الوحدة بعد أن تقادمت، بل وأكل عليها الدهر وشرب، كما أن تجاهل دور السلطة ومؤسساتها في هذه العملية، وكأن حماس لم تعد بحاجة للوحدة الوطنية، لن يوصلنا إلى أن مكان.
إن مدخل الربط بين جميع المتطلبات والاعتبارات الوطنية والإقليمية والدولية، وبلورة أجوبة وطنية ملموسة وقادرة على التعامل مع جميع هذه الاعتبارات والتناقضات استناداً للمصالح الوطنية الفلسطينية، تتمثل في التسليم بالإرادة الشعبية لإنهاء الانقسام والإسراع بتشكيل حكومة وحدة وطنية بمشاركة الجميع وبصلاحيات كاملة ، تمكنها من التصدي لمهمات رفع الحصار وإعادة إعمار قطاع غزة وإعادة بناء وتوحيد المؤسسات الفلسطينية، وإلغاء كافة الإجراءات المجحفة بحق أبناء القطاع، وبحيث تجعل أيضًا من متطلبات التهدئة أو وقف اطلاق النار مدخلًا لوقف العدوان اليومي على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، بدءًا من القدس ومقدساتها والأغوار وجميع الأراضي المسمّاة “ج” والمهددة يوميًا بالمصادرة والاستيطان والتهويد، ووقف الاجتياحات والاعتقالات وغيرها من الانتهاكات الإسرائيلية، وإرهاب قوات الاحتلال ومستوطنيه. هذا بالإضافة إلى دور هذه الحكومة وواجباتها في توفير مقومات الصمود، واستنهاض فعلي، وليس مجرد مناشدات لفظية، لتفعيل المقاومة الشعبية الشاملة، وباعتبار ذلك يستدعي أيضاً مراجعة وتصويب العلاقة مع الناس والنشطاء وليس ملاحقتهم واعتقالهم كما يحدث في الوقت الحالي.
ما من شك أن أداء أجنحة المقاومة وحركتيّ حماس والجهاد وصمودها وتضحياتها في المواجهة الأخيرة، قد أثبت مجددًا أنها قوة جديّة لا يمكن تجاهلها، هذا بالإضافة إلى أنها سبق وتكرّست كمكون أساسي من مكونات النسيج الوطني الفلسطيني. ولكن حقائق الواقع تشير إلى أنه إذا استمر مشهد الانقسام فإنه يهدد هذه الإنجازات بالضياع يومًا بعد يوم. المدخل الوحيد الذي يتصدّى لحقائق الواقع الصعب هذا، ويساعد في التغلب عليها، بما في ذلك تلك الماثلة أمام حركتيّ حماس والجهاد، ويُجنّبنا المرور مجددًا بما سبق وواجهته منظمة التحرير بزعامة “أبو عمار” وحركة فتح، وما استوجبته من تنازلات ضارة، يتمثل في بناء الوحدة الوطنية في إطار المنظمة والسلطة واندماج حركتيّ حماس والجهاد في مؤسساتها الوطنية والحكومية الجامعة تمهيدًا للتوّحد في تركيبتها السياسية من خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني في أسرع وقت يتم الاتفاق عليه، وإدارة هذا الصراع بكل أبعاده كشعب موحد وليس كفريقين يسعى اللاعبون الإقليميون والدوليون لاستثمار هذا الواقع على حساب المصلحة الوطنية العليا لشعبنا وقضيته العادلة.