د. طلال أبوركبة
تتسم عمليات تقديم المساعدات الإغاثية والإنسانية على النازحين في قطاع غزة، جراء الهجمة الإسرائيلية الشرسة منذ السابع من أكتوبر، بالفوضى العارمة، الأمر الذي أفقد تلك المساعدات الدور الأساسي المناط بها في تحسين الاستجابة الطارئة والعاجلة للفئات الهشة والمتضررة في أوقات الأزمات والكوارث، حيث لم تنجح حتى اللحظة عمليات تقديم المساعدات في الاستجابة لقيم الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، كما أنها لم تنجح في تعزيز مقومات صمود المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة من مواجهة الأزمات المتلاحقة الناجمة عن واقع النزوح.
أدت الفوضى التي تتسم بها عمليات تقديم المساعدات الإغاثية والإنسانية من قبل العاملين عليها في المؤسسات الدولية والمحلية إلى فقدان ثقة المواطنين بعدالة توزيع المساعدات الإنسانية والإغاثية، الأمر الذي ساهم في دفع الكثير من المواطنين إلى القيام بمحاولات الخداع والتلاعب، نتيجة لمعرفتهم وإدراكهم بالفساد الموجود في بيئة عمل هذه المساعدات، وقبولهم بهذه المساعدات حتى لو لم تكن تلبي احتياجاتهم وبيعها في الأسواق المحلية لتلبية احتياجاتهم الأساسية المفقودة. كما تنتشر بشكل كبير عمليات إعادة بيع المواطنين للمساعدات في السوق السوداء بأسعار أقل بكثير من أسعارها الأصلية ومن قبل ذات التجار الذين قاموا بتوريدها، ويمكن ملاحظة عملية إعادة البيع المنظمة للطرود الغذائية التي تقدمها العديد من المؤسسات العاملة في كافة أماكن النزوح في قطاع غزة
كما يلاحظ في قطاع غزة العديد من الشواهد التي تدلل على بيئة الفساد في عمليات تقديم المساعدات الإنسانية والتي تأخذ أشكالاً متعددة، منها على سبيل المثال قيام العديد من العاملين في تقديم المساعدات بإفراغ المساعدات من المواد الأساسية ذات القيمة المرتفعة واستبدالها بمواد أخرى أقل تكلفة وجودة، وقيامهم ببيعها للتجار، كما تشهد عمليات توزيع المساعدات إعداد كشوفات وهمية للمستفيدين، واستبدال أسماء المستفيدين حسب مزاجية مقدمي الخدمات. إضافة إلى اعتماد مزودي الخدمات على المخاتير في تقديم المساعدات مما أدى لازدواجية في الحصول على المساعدات، أضافة إلى غياب للمعيارية في عمليات توزيع المساعدات لدى المخاتير والذين يعتمدون على صلة القرابة والمحسوبية في توزيع تلك المساعدات، الأمر الذي ساهم بشكل كبير في غياب العدالة على عمليات توزيع المساعدات. كما أنه انعكس بشكل كبير على قدرة إيصال المساعدات للفئات المهمشة والضعيفة في مختلف أماكن النزوح.
كما تشهد عمليات تقديم المساعدات إزدواجية واضحة في توزيع المساعدات، بحسب نوع المساعدة، حيث يقوم العديد من مزودي الخدمات بتصنيف المساعدة حسب جودتها، وبالتالي هناك محاباة واسعة لدى مزودي الخدمات في إعداد كشوفات مستحقي المساعدة حسب جودة ونوع المساعدة، الأمر الذي يعد تمييز واضح من قبلهم في عمليات توزيع المساعدات.
يتذرع العديد من مزودي الخدمات الإنسانية والإغاثية، بأن السبب الأساسي الذي يقف وراء بيئة الفساد المنتشرة وحالة الفشل والتشوهات التي تعتلي كافة أشكال العمل الإغاثي في قطاع غزة، إلى تعقيدات المشهد الفلسطيني، وفقدان الحماية والقدرة على الحركة والتواصل لطواقم عملها، واستهدافهم بشكل مباشر من قبل قوات الاحتلال، الأمر الذي يجعل مسألة مكافحة الفساد وتعزيز نهج الشفافية والنزاهة في توزيع المساعدات معقد للغاية. كما أن حالة الفوضى العارمة التي يشهدها قطاع غزة في عمليات توزيع المساعدات، وعدم القدرة على ضبط عمليات التوزيع في ضوء تلك الفوضى من ناحية، إضافة إلى شح المساعدات التي تدخل عبر المعابر يوميا بفعل سياسة الاحتلال في تقنين دخول المساعدات، الأمر الذي يؤثر بدوره على النهج الشمولي في تقديم المساعدات لكافة المواطنين. هذا بخلاف غياب الحماية والأمن لدى مزودي الخدمات في إيصال المساعدات نتيجة تردي الأوضاع الأمنية في قطاع غزة، إضافة لحجم الضغوط التي تمارس من كافة الجهات في ضوء الاحتياجات الكبيرة للمساعدات من أجل تعزيز صمود المواطنين.
يمكن القول بأن الاستجابة للاحتياجات الإنسانية لجموع النازحين والمواطنين على حد سواء لم تكن حتى اللحظة على مستوى الحدث، ولا تتوفر حتى الأن رؤية واضحة أو خطط قادرة على الاستجابة لتلك الاحتياجات، كما أن الآلية القائمة لا تتمتع بأي شكل من أشكال الشفافية والنزاهة والمسائلة في ضوء هيمنة الفوضى والازدواجية، وسطوة مفاهيم الزبائنية والشخصنة والمحسوبية والواسطة في عمل العديد من تلك المؤسسات في توزيع المساعدات. الأمر الذي من شأنه أن يشكل معول هدم للتضامن والتماسك الاجتماعي، فعندما يتم توزيع المساعدات بطريقة فاسدة نتيجة تضارب المصالح، أو تغليب الواسطة والحزبية والمحاباة العائلية أو السياسية أو المناطقية، فإن ذلك سيؤدي إلى بث روح الفرقة والبغضاء والغبن بين المواطنين نتيجة التمييز بينهم، وسيؤدي في كثير من الأحيان لحالة من عدم الرضا والفوضى وأخذ المساعدات بالقوة، وهو ما سيؤثر سلباً على حالة السلم الأهلي والمجتمعي، وهو ما يحدث حاليا في توزيع المساعدات في قطاع غزة.
وأن كل حالات التدخل التي قامت أو تقوم بها المؤسسات الحكومية والأهلية والدولية فشلت في توفير الحياة الكريمة للمواطنين وتركتهم عرايا في مواجهة ثنائية بطش الاحتلال الساعي إلى تقويض المواطن الفلسطيني لإنسانيته وتعزيز الفوضى والبلطجة في العلاقات الفلسطينية خصوصا في ضوء حالات صراع البقاء التي يعيشها المواطن.
بات من الواضح أن هناك حاجة فلسطينية ملحة إلى زيادة الاستثمار في التصدي للفساد في المساعدات الإنسانية. وبشكل أكثر تحديدًا، يجب على الجهات الفاعلة الرئيسية في تقديم المساعدات الإنسانية بأن تصبح أكثر استجابة لمتطلبات منع الفساد في توزيع هذه المساعدات، والتزام السلوكيات الفضلى والمثلى التي تضمن وصول المساعدات لمستحقيها بطريقة تضمن العدالة ومعايير الكرامة الإنسانية. بما يحمي التضامن المجتمعي من ناحية، ويعزز صمود المواطنين في مواجهة سياسة الاقتلاع والتفكيك الإسرائيلي.