جمال زقوت:
من البديهي تماماً أن حالة الفشل التي تعاني منها الحركة الوطنية، وفي ظل استمرار الانقسام بين مركباتها، أن يكون لذلك تبعات خطيرة على النسيج الاجتماعي ومدى القدرة على الصمود.
مواجهة النكبة واستعادة الهوية الجامعة:
روح التضامن والتماسك الاجتماعي ميزت مسيرة الرد على النكبة، وقد أبدع الفلسطينيون في بناء هويتهم الجامعة في إطار منظمة التحرير التي وحدت كفاحهم تحت رايتها وأثمرت أطول وأهم انتفاضة في التاريخ المعاصر للخلاص من أبشع احتلال عنصري احلالي في القرن العشرين.
نعم، لقد وحدت معاناة النكبة والثورة والانتفاضة كفاح الفلسطينيين، وعززت روح التضامن الاجتماعي وساهمت الى حد كبير في صون النسيج الوطني والاجتماعي الذي كان بمثابة الحصن المنيع ليس فقط للرد على محاولات الطمس والإلغاء وتبديد الهوية الوطنية والثقافية، بل وشكلت السلاح الأهم للنهوض الوطني والمشاركة الديمقراطية في كل مراحل ذلك النضال.
السؤال أين نحن اليوم من ذلك كله؟
رغم مخزون التجربة والجاهزية الكفاحية العالية لأجيال متتابعة من الفلسطينيين، إلا أن السمة السائدة لمجتمعات التواجد الفلسطيني منذ أوسلو حتى اليوم آخذة في التفكك البيني لتلك المجتمعات، وبديهي أن يتغلغل في كل واحد منها.
لقد أفرزت تلك المحطة الفاصلة هوة شاسعة، بين تجمعات اللجوء ومجتمع الضفة والقطاع، فقد بدت السلطة ومن خلفها منظمة التحرير، وكأنها فرطت ليس فقط بقضية اللاجئين وحقهم بالعودة، بل وبمسؤوليتها عن رعاية مصالحهم اليومية المباشرة، كما شعرت جماهير شعبنا داخل الخط الاخضر ومعهم أبناء القدس، أنهم خارج حسبة السلطة التي هيمنت على مقدرات وإرث نضالات الشعب الفلسطيني، دون رؤية أو فلسفة للحكم تربط بين متطلبات وحدة النضال الوطني لإنهاء الاحتلال، وبين البناء الديمقراطي لتعزيز الصمود.
الانقسام وخطر التفكك
هذا التفكك في بنية الحركة الوطنية أنبت الانقسام الذي كان بمثابة ذروة الوهم في الصراع على الشرعية والتمثيل أي على المصالح الفئوية لقوى الانقسام التي نحَّت جانباً جذور الصراع مع عنصرية الاحتلال، وسهّـلت، بوعي أو بدونه، لعصابة حكومات المستوطنين التمدد غير المسبوق لحركة التوسع الاستيطاني الاستعماري العنصري.
هذا التفكك في بنية الحركة الوطنية وما رافقه من تخلي عن دورها الوطني والاجتماعي بإعلاء فئوية السيطرة الانقسامية على حساب المصالح الوطنية والعامة لتجمعات الفلسطينيين، ولَّدَ حالةً غير مسبوقة من الاحباط ومحاولات الخلاص الفردي.
فغزة، ورغم تعرضها لخمسة حروب في سياق حصار مطبق، إلا أن وحدة المشاعر بين تجمعات الفلسطينيين إزاء مأساة القطاع، تكاد لا تلحظ بعد مرور أقل من اسبوع على إراقة دماء أبنائه التي لم تكن قد جفت بعد. وتغول الاستيطان في القدس وباقي أرجاء الضفة الغربية يكاد لا يحرك من هم على مسافة دقائق من حملات التطهير العرقي في أحياء المدينة المقدسة، والأغوار والمناطق المصنفة “ج” في الضفة.
مشهد الجرائم اليومية التي يرتكبها المستوطنون وجيش العدوان والاحتلال، بات كحالة معتادة لا تحرك أحداً، ولا يتجاوز الرد عليها من ” الناطقين” بأكثر من كلام باهت وفارغ لا يتوقف عنده أحد من الناس، أو من عواصم القرار الدولي، ناهيك عن عصابة حكومة تل أبيب التي تدير مسرح دمى المنقسمين وصراعهم على فتات مصالح مجرد البقاء في الحكم.
غزة وحيدة في معاناة أهلها
منذ سنوات، وغزة تشهد حالات انتحار مستمرة كان آخرها الشاب يوسف سمير النوري ضحية الاحباط وانعدام فرص الحياة في القطاع الملتهب، والذي لم يتوقف شبابه وأهلنا فيه عن الحراك ضد الانقسام جذر مأساتهم بعد الاحتلال، ومن أجل حقهم في الحياة وليس استمرار غرق غزة وأبنائها في البحر، وما من مجيب؛ لا من قبل حماس، ولا من الذين يواصلون الادعاء بالشرعية واحتكار التمثيل دون انتخابات.
التفكك يمتد للضفة والداخل والشتات
التفكك الذي تعيشه الضفة، سيما بعد احتواء هبة الشيخ جرّاح، والتي أفضت للتمادي في توظيفها لأجنداتهم الفئوية، وتركهم لهذه الهبة، ومعها أهل الشيخ جرّاح، فريسة التهويد والاقتلاع العنصري، هذا في وقت لا يُنظر لتمرد شباب جنين ومخيمها وبلدة نابلس القديمة، وغيرها من المدن والمخيمات، على بطش الاحتلال وعجز الفصائل، سوى أنها مؤامرة انقلابية، تستدعي الاعتقال! لمن ينجو من جرائم قتل جيش الاحتلال، وفق ما يسمى بتفاهمات شرم الشيخ والعقبة. بالإضافة لما يجرى في جنوب الضفة من صراعات عشائرية كنتيجة طبيعية لفراغ السلطة، وما كان يعرف بالحركة الوطنية، وطغيان صراعاتها ذات الطابع الرجعي الاسلاموي من ناحية، والقبضة الامنية التي سبق وذهب ضحيتها الشهيد نزار بنات من ناحية أخرى.
فهل يظن المهيمنون على المشهد، أنهم قادرون على اخماد ثورة الشباب بقبضاتهم الأمنية؟ سواء كان ذلك في غزة التي تثور من أجل مجرد العيش وحقها في الحياة، أم في الضفة التي يتمرد شبانها على الاحتلال الذي يدوس يومياً على كرامتهم ويُستولى على مصادر رزقهم، وتحت حرابه يتعرضون للقتل على أيدي عتاة الارهابيين المستوطنين ؟! أم أنهم يعتقدون أن تغييب العدالة واحتواء السلطة القضائية وتحويلها لمجرد أداة في خدمة قبضتهم الأمنية تلك، سيمكِّنُهم من استعادة سيطرتهم ؟! ناهيك عن أثر هذا التفكك على جماهير شعبنا في الداخل بعد أن تُركت فريسة لمخططات الحركة الصهيونية التي طالما اعتبرتهم قنبلة موقوتة، وأن مجرد بقائهم ليس سوى شوكة في حلقها، تتطلب اقتلاعها من جذورها، وهذا تماماً ما يفسر ظاهرة القتل الاجرامي تحت أعين المؤسسة الأمنية الاسرائيلية دون ان تُحرِّك ساكناً.
مخيمات لبنان ضحية التيه
ما جرى في البداوي سابقاً، ويجري في عين الحلوة، ليس مجرد نتاج للأصولية السامة فقط، والتي لولا تغييب دور منظمة التحرير ومسؤوليتها عن رعاية مصالح تجمعات شعبنا في الشتات وتغلغل الانقسام فيها، لما تمكنت هذه القوى الأصولية من النيل من ارادة شعبنا في هذه المخيمات، وتركها فريسة بين اللجوء والتدمير الذاتي، وهي التي كانت دوماً خزّان الثورة وعنوان عنفوانها!
من يريد أن يعالج التفكك الأخطر على مسيرة شعبنا ومصيره الوطني، والتي فاقت مخاطر النكبة ذاتها، فعليه أن يغوص في جذور هذه التفاصيل وأسبابها ودلالاتها على تفكك الهوية الوطنية ومؤسساتها الجامعة.
قرع الخزان على خطى غسان
لقد بلغ السيل الزُبى، فاستمرار هذا الحال سيؤدي إلى تسعير الاحتراب، ولم يعد بالإمكان الصمت على جريمة تقسيم مجتمعات التواجد الفلسطيني في الوطن والشتات، ولا علاج لهذه المعضلة التي تنتشر كالسرطان سوى باستئصال أسبابها، واعادة بناء المشروع الوطني التحرري والهوية الواحدة ومؤسسات الوطنية الجامعة.
الأمر جلل ولن يرحمنا التاريخ إن لم نتصدى للكارثة. صحيح أن شعب فلسطين غير قابل للهزيمة، وأنه أكبر من كل قياداته، ولكن المؤامرة اكبر من أن يترك الناس وحيدين في مجابهتها والتصدي لكل أبعادها .