جمال زقوت
حالة التكلس العقيمة التي تمر بها مجمل أطراف الحركة الوطنية، وإصرار المتنفذين فيها على رفض إجراء أي مراجعة للسياسات التي أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم من عجز وفشل كمظهر عميق للأزمة، تستدعي الاجتهاد بمسؤولية وطنية، بعيدة عن النزق الانفعالي الناجم عن سوداوية اللحظة، للإجابة الهادئة والملموسة على سؤال إمكانية توليد حركة وطنية قادرة على قيادة النضال الوطني، واستعادة مكانة القضية الفلسطينية، التي تتعرض لخطر التصفية من قبل حكومات الاحتلال المتعاقبة سيما حكومة المستوطنين الحالية بقيادة نتانياهو – سموتريتش – بن جڤير.
تجارب الحراكات الوطنية والاجتماعية
في هذا السياق، وفي مقابل حالة التشرذم برز عدد من الاجتهادات لمعالجة هذه الأزمة البنيوية الناجمة عن حالة الانقسام المستعصية، والتي تهدد بالخطر الداهم مجمل المشروع الوطني، إذ ظهرت حراكات وطنية واجتماعية في محاولة لإبراز مخاطر الانقسام، وقد ركزت جهدها حول متطلبات إنهائه. إلا أن هذه الحراكات لم تتمكن من الصمود والاستمرار بسبب حالة الاستعصاء الانقسامية، وإصرار المهيمنين على المشهد بالمضي في أجنداتهم الاقصائية، ورفضهم الإقرار بالتعددية التي سبق وميزت الحركة الوطنية ومؤسساتها السياسية والشعبية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية ومنظماتها الشعبية، سيما في الأرض المحتلة بدءاً من الجبهة الوطنية ولجان التوجيه الوطني ومن ثم القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الكبرى، حيث شكلت جميعها تعبيرات سياسية واجتماعية للائتلاف الوطني العريض في إطار الإقرار بالتعددية السياسية والفكرية لمختلف التوجهات وائتلافها في إطار جبهوي عريض.
كما أن تلك الحراكات كانت قد عجزت عن احتضان وقيادة النضال الاجتماعي لمواجهة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والمدنية الناجمة عن حالة الانقسام، واقتصر دورها على ما يمكن تسميته بالمناشدات الأخلاقية والفوقية والتحذير اللفظي من الأخطار الوطنية الناجمة عن هذا الانقسام. نعم، لقد فشلت تلك الحراكات، كما وللأسف فشلت حتى الآن حراكات أخرى، في بناء أطر قادرة على قيادة النضال الاجتماعي وربطه بالمسألة الوطنية، وبما يُمكِّنها من بناء قاعدة اجتماعية عريضة، كمدخل لإعادة بناء موازين القوى الاجتماعية وكسر حالة الاستقطاب الجهنمية.
فشل “القوى الديمقراطية”
بالإضافة لذلك، فقد فشلت القوى التي تسمى نفسها بالقوى الديمقراطية في بلورة توجهات جبهوية جديدة كفيلة باستنهاض القوى الاجتماعية التي سبق وانفضت عنها، وعن القوى المهيمنة على المشهد الانقسامي، وعن مجمل الحركة الوطنية. وظلت هذه القوى تدور في حلقة مفرغة، وحبيسة أفكارها المتقادمة، وعدم استعدادها لإجراء مراجعة تستجيب للتغيُّرات الاجتماعية والسياسية وحتى الفكرية الهائلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني. كما عجزت عن بلورة فكر وطني تقدمي عريض وأدوات كفاحية تربط الوطني بالاجتماعي لإنجاز تلك المهمة التاريخية المتمثلة في إعادة بناء الكتلة الشعبية الكفيلة بتعديل أو تغيير ميزان القوى في إطار ما ظل يعرف بالحركة الوطنية، وما يتطلبه ذلك من الإقرار الملموس بالتعددية السياسية والفكرية التي يمكن أن تفتح طريقاً بديلاً ونموذجاً لمعالجة جذور الأزمة الوطنية المتمثلة بفشل برنامجيّ التسوية و”المقاومة”، وترددها في الإقرار بالحاجة للتعايش مع التعددية السياسية والفكرية وحتى البرامجية في إطار وحدة الهدف العام المتمثل بمقاومة الاحتلال وفق وسائل متفق عليها. فالتجربة الفلسطينية تؤكد أن شكل المقاومة الذي يحظى بالإجماع الوطني والشعبي، هو الأكثر تأثيراً على محاصرة وإفشال مخططات العدو، والأكثر قدرة على استنهاض المشاركة الشعبية من مختلف الفئات الاجتماعية. وهذا ما يفسر النجاحات والإنجازات الهائلة التي حققتها الانتفاضة الكبرى” ديسمبر 1987″، خاصة في سنواتها الأولى حتى 1991 -1992
هبة الشيخ جراح وفشل الدبلوماسية الفلسطينية
في سياق هذا المخاض المستمر شكلت هبات وانتفاضات القدس المختلفة منذ 2015-2021، والتي كان آخرها هبة الشيخ جراج، نموذجاً يشير إلى عدد من الاستخلاصات، مركزها أنها لم تكن خاضعة لحسابات حالة الانقسام الجهنمية، وعصية على قدرة السلطة الفلسطينية لاحتوائها. إلا أنه وبفعل عجز وإحجام المؤسسات الرسمية للحركة الوطنية (السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير) عن مساندة تلك الهبة التي كشفت عنصرية حكومة الاحتلال وسعيها لترسيخ نظام الأبارتايد، وتردد الدبلوماسية الرسمية في تسليحها بأية خطوات جدية تتكامل وتسند الدبلوماسية الشعبية التي تمثلت بنهوض الجاليات الفلسطينية، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي الذي قاده أهل الشيخ جراح وعدد واسع من القيادات الشابة الفلسطينية المؤثرة في الرأي العام المحلي والدولي، ونهوض قوى التضامن الدولي الواسعة سيما في أوروبا والولايات المتحدة.
حماس تختطف الهبة للسيطرة على التمثيل
بفعل هذا التردد والإحجام الرسمي، تمكنت حماس عبر ما سمى بمعركة “سيف القدس” من اختطاف واحتواء تلك الهبة، بل وإجهاضها بالسياسة العنترية التي تشكل الوجه الآخر لعجز السلطة الفلسطينية، كما حاولت حماس استثمار مفاعيل ونتائج تلك الهبة الشاملة بالقفز نحو المطالبة بالاستحواذ على التمثيل، والذي دوماً كان محرك الصراع الداخلي وجوهر دوافع الانقسام والاستقطابات المدمرة على ضفتيه.
جدلية الوطني والاجتماعي
السؤال المركزي الذي طرحته في مقالي السابق
وهو هل يمكن اعطاء الأولوية للنضال الاجتماعي وكيف؟ أم أن المطلوب بلورة صيغة تربط النضال الاجتماعي بالكفاح الوطني؟ سيما في ظل تصاعد عدوانية حكومة الاحتلال الراهنة، وسعيها لاستكمال ما حققته الحكومات المتعاقبة من تهشيم وتدجين ومحاولات عزل الحركة الوطنية عن الحالة الشعبية، وعن حركات التضامن الدولي التي تتعاظم، وباتت تشكل حالة قلق جدِّية للعنصرية الصهيونية ونظام الأبارتهايد الذي تتضح معالمه تدريجياً على مستوى المنظمات والمؤسسات الحقوقية الدولية والأكثر مصداقية كأمنستي وهيومن رايتس ووتش وغيرها.
الخيارات الممكنة للخروج من المأزق
نحن اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما، وكلاهما يجب أن ينطلق من مركزية النضال الوطني واستنهاض المقاومة الشعبية لإعادة بناء المشروع التحرري، ومؤسسات الوطنية الجامعة. الخيار الأول والذي يحتل الأولوية يتمثل في تعزيز التعبئة والحشد المنظم لجميع القوى التي لها مصلحة حقيقة في التغيير، وإجبار القوى المهيمنة على المشهد الانقسامي بالعودة للإرادة الشعبية التي تسعى لإجراء إصلاح ديمقراطي جذري وعميق عبر الانتخابات الديمقراطية الشاملة، وما يتطلبه ذلك من ضرورة التشكيل الفوري لحكومة وحدة انتقالية مهمتها المركزية تعزيز صمود المواطنين وإسناد مقاومتهم، سيما الشعبية منها في مواجهة العدوانية الاستعمارية التي تتوهم بقدرتها على هزيمة المشروع الوطني التحرري وحسم الصراع لصالح المشروع الاستعماري الصهيوني، وكذلك التحضير لإجراء انتخابات عامة كمعركة ديمقراطية شاملة تستهدف النهوض الوطني ضد الاحتلال، وليس التخفي وراء استراتيجيته لتهشيم وعزل الحركة الوطنية عن حاضنتها الشعبية. هذه العملية تتطلب أيضاً الالتزام بتنفيذ متطلبات العدالة الانتقالية وإلغاء كافة القرارات بقوانين والتي مست بشكل عميق باستقلالية السلطة القضائية ومجمل منظومة العدالة، وبحرية التعبير والتنظيم والاحتجاج، وإتاحة الفرصة للقوى الاجتماعية الناهضة، والتي دفعت ثمناً باهظاً جراء الانقسام وسياسات الاحتلال على حد سواء، للمشاركة الفاعلة في صنع القرار وفي العملية السياسية الانتقالية، وفي مقدمة هذه القوى الشباب والنساء وغيرها من القوى المهمشة في المجتمع.
أما الخيار الثاني، والبديل لعناد القوى المهيمنة في حال رفضها للتماشي مع الخيار الأول، والذي يمكن اعتباره عملية الكي الأخيرة ولا مناص منها، فإنه يستدعي البحث المشترك والاجتهاد الجماعي في بلورة أسس تشكيل بديل وطني ديمقراطي إنقاذي كفيل بحماية المنجزات الوطنية، ولا يكون عتلة إضافية لمزيد من الشرذمة والاستقطاب الانقسامي الذي شكل دوماً استراتيجية ثابتة للمشروع الصهيوني وحكومات الاحتلال المتعاقبة. وعلى هذا البديل تقع مسؤولية التصدي لسؤال جدي إزاء إمكانية ومتطلبات القيام بثورة اجتماعية لمواجهة حالة الانهيار والتفكك الخطيرة التي تنذر بالفوضى المدمرة، الأمر الذي يتطلب توحيد جهود ومشاركة كافة الاتجاهات والحراكات والشخصيات المستقلة والعابرة للفصائل، والمتضررة من الحالة الراهنة في معركة صون المصير الوطني من المخاطر الداهمة.