جمال زقوت
كما بات واضحًا، فإن بقايا الحركة الوطنية تعاني، بصورة مضطردة، من أزمة فشل استراتيجية، وحالة تآكل يبدو أنها غير قابلة للترميم؛ حيث يتسيّد فوق أنقاضها أصحاب المصالح الفئوية والشخصية على حساب المصالح الوطنية والمجتمعية والحقوق العامة والشخصية للمواطنين، بما في ذلك متطلبات صمودهم وقدرتهم على مواجهة خطر الانهيار الذي تتراكم ملامحه في المجتمع الفلسطيني يوميًا، وخطر مخططات التصفية الاسرائيلية لحقوق شعبنا الوطنية التي باتت أكثر من واضحة.
لقد شهد المجتمع الفلسطيني تحولات اقتصادية واجتماعية مفصلية منذ أوسلو، وخاصةً بعد سنوات الانقسام العجاف وحتى الآن أدّت إلى أن جوهر التناقض الاجتماعي بات يتبلور، وبوضوح، بين مؤسسات السلطة المنقسمة في كل من الضفة والقطاع من ناحية، وبين مصالح الأغلبية الساحقة من المواطنين الفلسطينيين من ناحية ثانية. ولمواجهة وحلّ هذا التناقض فنحن أمام الخيارات التالية:
أولًا: أن تعود الأطراف المهيمنة على المشهد إلى رُشدها وتُقرّ بضرورة مراجعة الأسباب التي أدّت وما زالت تفعل فعلها في تفكيك الحركة الوطنية وعزلة نظامها السياسي، بالإضافة لمراجعة مسؤولة لسياسات حركة حماس الانقسامية والتي أفرغت كل التضحيات وإرادة الصمود، بل وادعاءات النصر لكل المعارك غير محسوبة العواقب منذ سيطرتها على السلطة في غزة، وبحيث تُشكل هاتين المراجعتين، سواء منفردتين أو في إطار وطني جدّي، واستخلاصاتهما الواضحة لكل ذي بصيرة، قنطرة للتلاقي على أرضية الوحدة والتعددية. هذا الاحتمال يبدو أنه غير وارد، أو على الأقل غير مرئي، وما زالت الأطراف المهيمنة على المشهد تتنازعها نرجسية الإصرار على مواقفها لفرض شروط كل منها على الآخر. فالرئيس أبو مازن ما زال مُصرًا على التزام حماس بشروط الرباعية، في وقتٍ ليس فقط أن هذه الشروط لم تعد قائمة بالنسبة لأصحابها، بما في ذلك الإدارة الأمريكية نفسها، بل، فإنه وفقًا للتسريبات التي أعلنها “أهود يعاري” المقرب من المؤسسة الأمنية الاسرائيلية على القناة “12” الاسرائيلية، وكذلك ما نشرته صحيفة هآرتس الاسرائيلية، حيث أشار كلاهما لموقف أمريكي جديد يدعو لوضع شروط الرباعية جانبًا والتقدم لتشكيل حكومة جديدة، “وحدة وطنية أو تكنوقراط”، بمشاركة حماس. ربما يكون الإفصاح عن هذا الموقف يأتي كمحاولة أخيرة لإنقاذ إمكانية الحفاظ على مبدأ حلّ الدولتين، سيّما بعد التسريبات التي تخرج حول اتفاق لهدنة طويلة الأمد بين حماس واسرائيل، وإمكانية أن يُعزّز مثل هذا الاتفاق حالة الانقسام نحو الانفصال، سيّما في ظل غياب وحدة كيانية السلطة؛ الأمر الذي سيعني دفن نهائي لما يسمى بحل الدولتين. هذا بالإضافة إلى أن حركة حماس، التي توسع من علاقاتها الإقليمية والدولية، ما زالت تطرح شروطها غير الواقعية لسبل إعادة بناء مؤسسات الشرعية الوطنية في كل من المنظمة والسلطة على حد سواء.
ثانيًا: أن يعود طرفيّ الانقسام لما توافقا عليه حول إجراء الانتخابات دون الذهاب المسبق لحكومة وحدة وطنية تهيّئ لانتخابات حرة ونزيهة وشفافة، وتفتح الأفق لعملية سياسية داخلية تُمكّن القوى الاجتماعية الجديدة من بلورة نفسها كفاعل في مستقبل الحياة السياسية، ويبدو أن هذا غير وارد على الإطلاق. فأسباب تأجيل الانتخابات الحقيقية والمعلنة قائمة وتزداد تعمقًا.
ثالثاً: يبقى، ولحل هذا التناقض بين السلطة المنقسمة والمجتمع، ودون شعارات رغائبية، بأن تنهض قوى المجتمع الحيّة لانتزاع حقها في التعبير عن دورها والمبادرة لإعادة بناء الحركة الوطنية من القاعدة للقمة وليس العكس، وعلى أساس برنامج اجتماعي وطني يقوم على أولوية النضال الجماعي للدفاع عن المصالح والقضايا الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، دون استثناء الأبعاد الوطنية المترابطة مع هذه النضالات وفق متطلبات طبيعة المرحلة التي تتداخل فيها عملية التحرر الوطني مع متطلبات البناء الديمقراطي، وبما يشمل قضايا الحريات وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير والتنظيم والتظاهر. إن الجوهري في هذه العملية ينطلق من إعادة تعريف المشروع الوطني، والقوى الاجتماعية المحركة والحامل الاجتماعي لهذا المشروع، وفي مقدمتها الفئات المتضررة من الحالة الراهنة، والتي تتّسع يوميًا، سيّما في أوساط الشباب والمرأة والمخيمات والفئات الفقيرة في أحياء المدن وغيرها، دون الانعزال عن باقي فئات المجتمع والتي هي بالضرورة أيضًا تعاني من سياسات وإجراءات الاحتلال.
رابعًا: أما في حال استمرار حالة التآكل، واقتصار دور الحراكات الاجتماعية والسياسية على ما هو قائم من انتقائية، وعدم الاستعداد للتلاقي على قواسم وطنية وديمقراطية عريضة، لإعادة بناء النظام السياسي على أساس الوحدة الوطنية وترسيخ الحياة الديمقراطية عبر الانتخابات، فسيظل واقع الحال مفتوحًا أمام خطر الانهيار، وبالتالي مزيد من السيطرة الاسرائيلية على المشهد الفلسطيني برمته.
في كل الأحوال، فإن عملية إعادة بناء الحركة الوطنية يجب أن تنطلق من أسس مراجعة أسباب فشلها الراهنة، ولعلّ في مقدمة هذه الأسباب غياب شمولية التمثيل ليس فقط للحركات السياسية والاجتماعية، سيّما للشباب والمرأة في مؤسسات الوطنية الجامعة، بل وللتجمعات الفلسطينية كافة بما في ذلك داخل فلسطين المحتلة عام 1948، والشتات. وإصرار هذه الحركة على ضرورة التمسك بحق تقرير المصير لكل الشعب الفلسطيني، وليس فقط لأجزاءٍ منه، وأن أي حل للصراع الفلسطيني الاسرائيلي يجب أن يرتكز على ضرورة إنهاء الاحتلال العسكري الاستيطاني العنصري لجميع الأراضي المحتلة منذ عام 1967، وفي مقدمتها القدس المحتلة، وعلى حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، ومبدأ المساواة الكامل، سواء في دولتين مستقلتين كاملتيّ السيادة والحقوق كما عرّفها القانون الدولي في العلاقات الدولية، أو المساواة الكاملة لجميع المواطنين في دولة ديمقراطية واحدة، دون أي تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس. وكذلك رفض العودة لأيّ مفاوضات دون الاعتراف المسبق من قبل اسرائيل، وكذلك الولايات المتحدة، بالحقوق الوطنية الفلسطينية كما عرّفتها الشرعية الدولية وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال، وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الطبيعي في تقرير مصيره، والسيطرة على موارده، والعيش بحرية وكرامة في وطن له كباقي شعوب العالم.
إن الطريق لإعادة بناء الحركة الوطنية ينطلق من هذه الأسس، وبما يشمل الحق في المقاومة الشعبية الفاعلة والقادرة على إعادة الأمل للناس، والكفيلة في نفس الوقت بمراكمة عناصر القوة من أجل تغيير موازين القوى، وبما يشمل بنية جديدة للمؤسسة الرسمية التي يجب أن يتركز جوهر وظيفتها ودورها في تعزيز قدرة الناس على الصمود عبر خطط تنموية اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية تستهدف النهوض الوطني الشامل بما يمكن تسميته بالبقاء المقاوم.
في الحلقة القادمة والأخيرة، سنراجع أسباب عدم نجاح المحاولات السابقة والجارية لبلورة تيار ديمقراطي اجتماعي عريض يساهم في إعادة بناء حركة وطنية جديدة، وكيف يمكن تخطي هذا الفشل.