بقلم جمال زقوت
ثلاثون عاما احتاجها الجنرال متان فلنائي، الذي كان يشغل القائد العسكري لجيش الاحتلال الاسرائيلي لقطاع غزة إبان اندلاع الانتفاضة الكبرى في ديسمبر 1987، كي يعترف علنًا في ذكرى اندلاعها الثلاثين، أنه لم يكن لدى المؤسسة الأمنية و السياسية في اسرائيل أي توقع بإمكانية اندلاع تلك الانتفاضة وأنها تفاجأت بذلك الانفجار الشعبي، الذي غيّر إلى حد كبير في حينه مجرى الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. فقد كانت إسرائيل تعيش حالة إنكار الواقع الذي يحفره الاحتلال في وعي الفلسطينيين لحقيقة أن هذا الاحتلال ليس قدرًا لا رادّ له، ولم يكن قادة الاحتلال مستعدين لا للنظر في مرآة بشاعة احتلالهم في عيون الفلسطينيين، أو حتى مجرد النظر لرؤية أن الفلسطيني المتمسك بحقوقه الوطنية موجود ويكبر يوميًا على واقع شدة بشاعة احتلالهم.
ورغم الانفجار الكبير الذي هز في حينه ليس فقط تل أبيب والعواصم الإقليمية والدولية التي سبق واعتقدت أن قضية الشعب الفلسطيني بعد الخروج من بيروت قد نحيّت جانبًا وأنه آن الأوان لتمزيق منظمة التحرير الفلسطينية التي تمثلهم، ومعها سيكون ممكنًا تمزيق حقوق وقضية الشعب الفلسطيني، كما كان قد صرح بذلك مستشار الأمن القومي الأمريكي في حينه زبغنيو بريجنسكي عندما قال “باي باي منظمة التحرير”، إلا أن قادة اسرائيل استمروا في إنكار واقع أن الفلسطيني قد سئم العيش تحت الاحتلال وأنه مصمم بمقاومته الانتفاضية على نيل حريته واستقلاله.
اسحق مردخاي الذي كان يشغل قائد المنطقة الجنوبية لجيش الاحتلال، و في لقاء له مع مراسلة الصاندي تايمز البريطانية “اعتبر أن ما يجري مجرد عبث أطفال سرعان ما سيتمكن الجيش الاسرائيلي من اخماده واعادة السيطرة عليه”، كان ذلك ما أخبرتني به المراسلة في لقاء معى في فندق المارنا هاوس في مدينة غزة، ردًا على سؤالها لمردخاي عن الانتفاضة و القيادة الموحدة التي كانت تتبلور للتو . ولم يكن بإمكاني في حينه سوى الرد المحايد بأن الأيام و الأسابيع القادمة هي التي ستكشف من هم الأطفال؛ أشبال الانتفاضة وقيادتها الشابة أم مردخاي وجيشه الذي كان يتحول في حينه من خامس جيش في العالم والأول في الشرق الأوسط إلى شرطة فاشلة تطارد من كان يسميهم الأطفال العابثين في أزقة مخيم جباليا والشاطئ والنصيرات وغيرها . و هذا ما اعترفت به ذات المراسلة وهي تضحك مقهقهة عندما التقيتها في تونس بعد ابعادي من قطاع غزه بأسابيع” نعم، هو كان الطفل الذي لا يريد أن يصدق ما يجري”. فقط دان شمرون رئيس هيئة الأركان الذي اعترف بأن ما يجري هو تعبير لارادة شعب يرفض الاحتلال، ولا يمكن كسر ارادة حركة وطنية يريد شعبها أن يعيش حرًا.
مشكلة إسرائيل الأزلية هي إنكار الحركة الصهيونية لحقيقة الشعب الفلسطيني وجذوره الراسخة في هذه البلاد، و أن هذا الشعب لن يساوم مهما قست عليه أو خذلته الأيام العابرات، ومن هذه الحقيقة التوراتية تواصل حكومات إسرائيل المتعاقبة إنكار ليس فقط حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، لا بل وإنكار وجوده كشعب، وأن الفلسطينيين ليسوا سوى مجرد سكان يجب التعامل مع احتياجاتهم. هنا تكمن الكارثة الحقيقية التي تلازم الفكرة الصهيونية، والتي ستكون مقتلها إن استمرت إسرائيل تسلم بذلك كحقيقة، والتي هي في الواقع العبث بعينه، والذي سيجر المنطقة إلى المزيد من الكوارث على الشعبين، حتى يفيق حكام إسرائيل من أحلامهم التي لا ترى في الفلسطيني سوى كابوسًا يؤرق ليلهم وأنه لابد من إزاحته من الطريق .
جوهر أسباب فشل ما سمي بالتسوية السياسية هو أن إسرائيل الصهيونية لا تؤمن سوى بروايتها التوراتية، وقد سعت عبر ما عرف بسلام أوسلو لكي وعي الفلسطيني وتنحية روايته وإجباره على التسليم بالرواية التوراتية، وأن الوجود الفلسطيني العابر من وجهة نظرهم يمكن احتوائه عبر الالحاق الاقتصادي كما كان عشية الانتفاضة الكبرى حيث كان يعمل في إسرائيل حينها ما يزيد على ربع مليون عامل من القطاع والضفة بما فيها القدس، وكانت الأوضاع الاقتصادية حينها أكثر من جيدة ولكنها لم تمنع اندلاع أكبر انتفاضة في تاريخ المنطقة، بل ولم تتمكن من احتواء المقاطعة الاقتصادية للبضائع وسوق العمل معًا.
بعد حوالي ما يقرب من ثلاثين عامًا على عملية مدريد واشنطن و من ثم أوسلو، تعود حكومات إسرائيل لتسقط مجددًا في عبثية انكارها للحقيقة، و تستكمل محاولة تنكرها للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. بغض النظر كيف تمكنت المؤسسة الإسرائيلية خلال هذه السنوات من ازاحة المجتمع الإسرائيلي عميقًا نحو اليمين الأكثر تطرفًا منذ نشأتها، على أهمية بل وضرورة مناقشة ذلك، وبما يشمل المسؤولية الفلسطينية والدولية عن هذه التحولات، إلا أنه لا يمكن إنكار أن تلك المؤسسة ولأسباب متعددة أهمها فلسطينيًا الانقسام الداخلي، وازدواجية المعايير والنفاق الدولي، نجحت إلى حد بعيد في إضعاف مكانة القضية الفلسطينية، كما نجحت في ترويض واحتواء وتفتيت الحركة الوطنية الفلسطينية سواء في إطار منظمة التحرير حيث سلبتها جزءًا أساسيًا من مشروعيتها عندما أجبرتها واقعيًا على الاعتراف الضمني بروايتها التوراتية دون أن تقدم لها شيئاً من الحقوق الوطنية ورواية الفلسطينيين التاريخية، كما أنها نجحت إلى حد بعيد في ترويض حركة حماس التي ظل يطغى على استراتيجيتها هوس السيطرة على التمثيل الفلسطيني، وأن تحل محل منظمة التحرير الفلسطينية، وبهذه الوسيلة التي تشكل جذر الانقسام أدارت إسرائيل لعبة التذويب المتدرج لمكانة القضية الفلسطينية، واعتقدت ، وهنا مقتلها، أن انتصارها على جناحي الحركة الوطنية الفلسطينية يشكل انتصارًا تاريخيًا للحركة الصهيونية على الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني، وهي ما زالت تعيش حالة الإنكار لحقيقة الشعب الفلسطيني والتنكر لحقوقه، و تتوهم أنها بما تسميه السلام الاقتصادي سيكون بمقدورها اختراع ليس فقط قيادة تتماشى مع روايتها، بل وخلق حقائق تجعل من روايتها الوحيدة السائدة، و قد زاد من أعراض هذا الوهم ضعف وتفكك القيادة الفلسطينية وانقسام الحركة الوطنية، بالاضافة لارتماء النظام العربي الرسمي في حظيرة المشروع الإسرائيلي الذي يواصل إنكار الحقيقة والتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني.
لقد فشلت إسرائيل استراتيجيًا في فهم حقيقة الخيط الرفيع الذي يميز بين الشعب الفلسطيني وبين الحركة الوطنية الفلسطينية، فالشعب هو الذي أنشأ حركته الوطنية وإطاره التمثيلي، وبالنسبة له ستظل حركته هذه ممثلة له طالما هي متمسكة بتطلعاته وبوحدته ووحدة مصيره وبحقوقه الوطنية على الأقل كما عرفتها الشرعية الدولية، ودون ذلك فالشعب الفلسطيني الذي أنشأها قادر على إنشاء غيرها. قد تكون إسرائيل انتصرت واقعيًا على الحركة الوطنية الراهنة أو تمكنت من تدجينها واحتوائها، و لكنها لن تستطيع أن تنتصر وفق منظورها على الشعب الفلسطيني أو أن تلغي وجوده وحقوقه، فكلاهما غير قابل للإلغاء.
الفلسطينيون عندما كانوا في ذروة قوتهم، كانوا بزعامة عرفات وبراغماتيته، مستعدون لتسوية تاريخية تضمن لهم الحد الأدنى من حقوقهم الوطنية كما عرفتها الشرعية الدولية، ولذلك في حينها نحّوا بعض أشكال النضال المشروعة وفق القانون الدولي جانبًا، وتبنوا المقاومة الشعبية والمفاوضات، ولكنهم عندما اكتشفوا أن التسوية لم تكن سوى سرابًا لانتزاع كل عناصر قوتهم، بما في ذلك وحدتهم الوطنية التي تشكل أساس قوتهم وكونهم شعب له حقوق عادلة وليسوا مجرد مجموعات سكانية تحتاج لحلول اقتصادية وإنسانية، باتت الأغلبية الشعبية تعود مجددًا لجذور الصراع ومنشأه وهي تسعى بالفطرة ربما لاستعادة أدواته العصية على الانكسار أو الاحتواء أو التحييد، كما تمكنت من القيام بذلك مع طرفي الانقسام المهيمنين على المشهد العام.
بهذا المعنى يمكن فهم طبيعة وخلفية ما يجري هذه الأيام، وجوهره أن الاعتقاد بامكانية تصفية حقوق الفلسطينيين مجرد وهم وسرعان ما يتهاوى، بل إن هذا الاعتقاد العبثي هو السبب الحقيقي لتصاعد أعمال العنف، حيث تستميت حكومة الاحتلال و الاستيطان للاستمرار في انكار حقيقة الشعب الفلسطيني، وصلت فيها حالة من الهستيريا ليس فقط لتسليح المستوطنين واطلاق ارهاب غلاتهم ضد المدنيين العزل من أبناء الشعب الفلسطيني، بل ودعوة كل الاسرائيليين لحمل سلاحهم و اطلاق النار دون رادع قانوني تحت ذريعة حماية الأمن وبهدف تصدير الشعور الزائف بأن إسرائيل النووية في خطر، والحقيقة أن من يعاني الخطر والهزيمة فقط هو الزيف الذي يتنكر للفلسطيني وحقوقه ويتوهم الانتصار التاريخي على روايته.
فالفلسطينيون اليوم يجددون روايتهم ويعيدون بناء حركتهم الكفاحية وينتفضون على الاحتلال وعلى حالة الركون وقلة الحيلة والتكيف الذي توهم أنه أرسى أسسها. وأظن أن تاريخ الصراع يجلي حقيقة راسخة وهي أنه كلما أوغلت اسرائيل في دم الفلسطينيين كلما عجلت في بلورة ما يوحدهم في الميدان تمهيدًا لوحدتهم في السياسة. السؤال الكبير هل تستوعب قيادات الهيمنة الانقسامية إرادة الناس وبوصلتها أم أنها تضع نفسها على هوامش التاريخ؟! والسؤال الأخير ما هو الثمن الذي تحضر له حكومة الاحتلال من ضحايا بين الشعبين حتى تعترف بأن الطريق الوحيد للأمن والسلام هو فقط بإنهاء الاحتلال والعنصرية وتُقر بحقوق الشعب الفلسطيني، و في مقدمتها ممارسة الحق في تقرير المصير بكل أبعاده ومكوناته.