تيسير خالد
(ملخص لورقة عمل قدمت في المؤتمر الأول لمناهضة الأبارتهايد الاسرائيلي، الذي عقدته دائرة مناهضة الأبارتهايد في منظمة التحرير الفلسطينية في رام الله في 11 نوفمبر 2022 . )
بدأت اسرائيل مشروعها الاستعماري الاستيطاني في الضفة الغربية بما فيها القدس مع وقف إطلاق النار في حرب حزيران من العام 1967 وذلك بتدمير القرى الفلسطينية ( يالو ، عمواس ، بيت نوبا ) وتهجير سكانها وفرض السيطرة على ما يزيد عن 58 كم2 من الأراضي الحرام ، وإقامة مستوطنة على تلك الأراضي. وكان هدف السياسة الإسرائيلية إجراء تعديل على الحدود يمكن اسرائيل من ضم (القدس ، اللطرون ، ومنطقة غوش عتصيون )، وتحويل الأغوار الفلسطينية في الوقت نفسه الى منطقة عسكرية ومجال حيوي لأطماعها العدوانية التوسعية .
وقد شهدت فترة حكم حزب العمل بين 1967 و 1977 بناء عدد من المستوطنات بلغ نحو 31 مستوطنة في ( غوش عتصيون ) في محافظة بيت لحم وفي غور الأردن فضلا عن المستوطنة التي اقامتها على اراضي القرى المدمرة (يالو، بيت نوبا، اللطرون). أما عدد المستوطنين فقد ارتفع إلى 2876 مستوطنا
وفي العام 1977 وقع انقلاب في النظام السياسي الاسرائيلي ، ومعه بدأ التحول الكبير في سياسة اسرائيل الاستيطانية بعد صعود اليمين المتطرف بقيادة مناحيم بيغن الى السلطة ، حيث تم بعد التوقيع على اتفاق السلام مع مصر إقامة 35 مستوطنة جديدة …ومع الوقت تطورت النشاطات الاستيطانية ليصل عدد المستوطنات الى نحو 158 موزعة على مختلف محافظات الضفة الغربية على النحو التالي : 24 في محافظة القدس ، 30 مستوطنة في محافظة رام الله 21 مستوطنة في محافظة الخليل ، 15 مستوطنة في محافظة بيت لحم ، 16 مستوطنة في الاغوار الفلسطينية ، 8 مستوطنات في محافظة طوباس ، 6 مستوطنات في محافظة جنين ، 11 مستوطنة في محافظة نابلس ، 15 مستوطنة في محافظة سلفيت ، 8 مستوطنات في محاظة فلفيلية وثلاثة مستوطنات في محافظة طولكرم . والى جانبها نما منذ العام 2001 على ايدي شبية التلال مئات البؤر الاستيطانية والمزارع الرعوية التي تحولت الى ملاذات آمنة لمنظمات الارهاب اليهودي في الضفة الغربية .
وعلى الرغم من التوقيع على اتفاقيات اوسلو في ايلول عام 1993 فقد تواصلت النشاطات الاستيطانية حيث جرى التوسع في الاستيطان وفي فتح الشوارع الالتفافية فارتفع عدد المستوطنين ليتجاوز بعد نحو عشرين عاما من التوقيع على اتفاقية اوسلو حدود 750 الف مستوطن 500 الف في الضفة الغربية و 250 الف في القدس المحتلة ، حسب معطيات جهاز الاحصاء الاسرائيلي . ومع التوسع الاستيطاني بدأ يتشكل نظام فصل عنصري في الاراضي الفلسطينية المحتلة ، على غرار ” الجراند أبرتهايد ” الذي شهدته جنوب افريقيا في عهد نظام التمييز العنصري البائد
هنا تجدر الاشارة أن هناك عشرات القوانين ، التي يمكن العودة لها لتوضيح الصورة بأن اسرائيل دولة فصل عنصري كقانون العودة وقانون النكبة وقانون القومية وقوانين التمييز في الحفاظ على التراث وغيرها من القوانين والسياسات ، التي تغطيها قرارات الجهاز القضائي بما فيها المحكمة العليا في اسرائيل ، غير انني سوف اتجاوزها لأن موضوع البحث هنا يدور حول الاستيطان وتداعياته . وعلى كل حال يفوق نظام الفصل العنصري الاسرائيلي في بعض سماته البنيوية هنا ذلك النظام الذي كان قائما في جنوب إفريقيا ، فهناك الكثير من الامثلة على ذلك ، ولكننا نوجزها بالأمثلة التالية للتوضيح فقط :
1 – ** تمييز في استخدامات المياه
حيث تسيطر اسرائيل على نحو 88% من مصادر المياه الفلسطينية في الضفة الغربية ، وتسمح للمستوطنين غير الشرعيين باستعمال ما يصل الى 2400 متر مكعب سنويا للفرد الواحد في حين لا يسمح للمواطن الفلسطينيي باستهلاك يزيد عن 50 متراً مكعباً سنوياً، أي ان المستوطن الاسرائيلي يستهلك 48 ضعف ما يمكن ان يستهلكه الفلسطيني . كما يحصل المواطن الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة على معدل أقل من 60 لتراً من المياه للاستخدام المنزلي في اليوم الواحد مقابل 280 لتراً للفرد الإسرائيلي داخل حدود دولة اسرائيل .
نذكر هنا بحادثة طريفة تؤشر على مدى ردود الفعل الهستيرية لدولة الاحتلال على كل ملاحظة نقدية يمكن ان تصدر عن أية جهة خارجية لا تتفق مع الرواية الاسرائيلية . ففي عام 2014 زار مارتن شولتز – رئيس البرلمان الأوروبي – الكنيست الإسرائيلي، وكان من ضمن ما جاء في خطابه باللغة الألمانية «سألني أحد الشباب الفلسطينيين، كيف يُمكن أن يكون بأن يحصل الإسرائيلي على 70 لترًا من المياه يوميًّا، في حين يحصل الفلسطيني على 17 لترًا فقط؟!»، وما أن انتهى السيّد شولتز من عبارته هذه ؛ حتى اندلعت ثورة في الكنيست منددة باللغة المعادية للسامية واليهود
** 2 – تمييز في المخططات الهيكلية للمراكز الحضرية
وفي مجال الحق في مخططات هيكلية مناسبة وخاصة في المناطق المصنفة ( ج ) يتجلى أيضا نظام التمييز العنصري . فمن مسح أجراه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في 2013 ، يتبيّن أنّ هناك 180 قرية تقع كلّها أو جزء منها في المنطقة C غير مرتبطة بشبكة المياه . قد يكون الوضع شهد تحسنا مع مرور الوقت ، غير ان ذلك التحسن يبقى ضعيفا ومحدودا ويؤكد ما ذهبنا إليه . فجمعية ( بمكوم ) الاسرائيلية كشفت في أحدث تقاريرها عن سياسة وزارة الأمن الاسرائيلية بشأن تراخيص البناء الفلسطيني في المناطق المسماة ( ج ) وأكدت أن جيش الاحتلال يمنع إصدار رخص بناء في المناطق المصنفة ( ج ) حسب اتفاقيات اوسلو بنسبة 99 % في السنوات العشر الماضية . وأوضحت في تقرير لها صدر في التاسع عشر من اكتوير 2022 ان من بين 570 طلبا للحصول على تراخيص بناء تقدم بها الفلسطينيون للحكم العسكري هذا العام تمت الموافقة على خمسة منها فقط . في السياق نفسه ووفقا لمعطيات المكتب الوطني للدفاع عن الارض فقد وافقت وزارة الدفاع الاسرائيلية بين عامي 2016-2018 على 21 فقط من أصل 1485 طلبا فلسطينيا للحصول على تصاريح بناء في المنطقة ( ج ) ، أي بنسبة 0.81%.
**3 – هدم وتدمير المنازل والممتلكات في الضفة الغربية
ومن مظاهر نظام التمييز العنصري هدم وتدمير ممتلكات الفلسطينيين بحجج وذرائع مختلفة . فقد انتهج الاحتلال الإسرائيلي جملة من السياسات لتدمير وهدم المنازل والممتلكات الفلسطينية في المناطق الخاضعة لسيطرته الأمنية والادارية . جدير بالذكر هنا ان مجلس الأمن الدولي دعا في العام 2004 إسرائيل لوقف هدم المنازل الفلسطينية وفقاً لقرار رقم 1544 ، واحترام التزاماتها بموجب القانون الدولي والإنساني ولا سيما الالتزام بعدم القيام بهدم المنازل خلافاً لهذا القانون ، وفقا للمادة 147 من اتفاقية جنيف الرابعة. أما الغطاء القانوني الذي تستند إليه سلطات الاحتلال في هدم منازل المواطنين الفلسطينيين فهو قانون الطوارئ الذي وضعه واستخدمه الاستعمار البريطاني لفلسطين عام 1945 : ( 71900 منزل وتهجير 73 الف حتى نهاية العام 2021
** 4 – هدم وتدمير المنازل والممتلكات في القدس الشرقية
وفي القدس المحتلة بشكل خاص توسعت دولة اسرائيل ببناء عشرات الاف الوحدات السكنية في مستوطناتها لاستيعاب أكثر من 250 الف مستوطن ، وقامت في الوقت نفسه بهدم آلاف المساكن والمنشآت الفلسطينية منذ العام 1967 ، وفي شكل اجمالي بلغ عدد المنازل والمنشآت ، التي هدمتها سلطات الاحتلال في القدس الشرقية في الفترة بين 1967 و 2020 نحو 2267 ترتب عليها الحاق الضرر بنحو 9581 مقدسيا .الى جانب ذلك يشكل الفلسطينيون 30% من السكان في المدينة ويدفعون وفقا للمعطيات الرسمية 40% من قيمة الضرائب التي تجبيها بلدية الاحتلال غير ان البلدية لا تنفق على الخدمات التي تقدمها لهم سوى 8 %من إجمالي الخدمات التي تقدمها البلدية للجمهور .
** 5 – تمييز وقيود على حرية الحركة والتنقل
يمنع الفلسطينيون من استعمال العديد من الطرق في الضفة الغربية ، ويجبرون على استعمال طرق طويلة وصعبة كبديل عن الطرق المختصرة المخصصة للمستوطنين .ويتم تطبيق القيود على حركة تنقل الفلسطينيين بواسطة شبكة من الحواجز الثابتة والمتنقلة . ولتوضيح الصورة فقط ، فقد أحصي مكتب الأمم المتحدة للشئون الإنسانية عدد الحواجز العسكرية الاسرائيلية عام 2018 بنحو 705 فيما كان في نيسان 2015 حوالي 361 حاجزا متنقلا مقابل قرابة 456 حاجزًا في شهر كانون اول 2014 و256 حاجزا في شهر كانون اول 2013 و65 حاجزًا بين شهر أيلول 2008 وشهر آذار 2009 . ومن خلال القيود التي تفرضها إسرائيل على الحركة فقد قطّعت الضفة الغربية إلى ست وحدات جغرافية أساسية : شمال الضفة الغربية ، وسط الضفة الغربية ، جنوب الضفة الغربية ، منطقة غور الأردن وشمالي البحر الميت ، جيوب الجدار الفاصل ومنطقة شرقي القدس.
6 – ** التمييز العنصري ضد الفلسطينيين في القضاء
يخضع الفلسطينيون والإسرائيليون الذين يرتكبون مخالفات في الضفة الغربية المحتلة لنظام قانوني مزدوج. ففي حين يخضع الفلسطينيون لمحاكمات وقوانين عسكرية ، تطبق على المستوطنين الإسرائيليين قوانين ومحاكمات مدنية. إن وجود نظامين قضائيين يشكل الأساس القانوني للتمييز العنصري الذي تمارسه إسرائيل باعتبارها دولة لليهود فقط . وتولي إسرائيل اهتماماً كبيراً للاعتداءات ذات الخلفية العنصرية مخالفة بذلك التزاماتها وفقا للقانون الدولي والتزاماتها وفقا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية .
7 – ** تمييز على مستوى الحق في البناء والسكن
وعلى مستوى الحق في البناء والسكن تبدو سياسة التمييز العنصري الاسرائيلية واضحة . ففي الوقت الذي قامت فيه اسرائيل بالتوسع في بناء المستوطنات في المناطق المسماة ( ج ) وسمحت بالتوسع في إقامة مئات المستوطنات والبؤر الاستيطانية ، فإنها لم تسمح ببناء قرية فلسطينية واحدة . وفي الوقت الذي تخصص فيه سلطات الاحتلال 37% من الاراضي الأميرية في الضفة الغربية لصالح بناء المستوطنات ، فإنها لم يخصص الاحتلال سوى 0,7% من هذه الاراضي لصالح الفلسطينيين .
** 8 – تمييز في الموقف من انتهاكات جيش الاحتلال والمستوطنين
يتضح من التوثيق ، الذي تقوم به منظمات مجتمع مدني اسرائيلية ، أن قوات الأمن الاسرائيلية تكون في العادة حاضرة في الأحداث التي يقوم خلالها المستوطنون بالاعتداء على الفلسطينيين كالمس بالممتلكات أو قلع الاشجار المثمرة او حرق المحاصيل الزراعية ، لكنها لا تفعل شيئا لوقف هذه الاعتداءات . منظمة ” يش دين ” الاسرائيلية تؤكد هنا أنها حصلت على معطيات من الجيش الإسرائيلي ، تفيد على سبيل المثال لا الحصر بأن العام 2010 سجّل تقديم 197 شكوى ضد جنود الجيش ، لكنه تم تقديم أربع لوائح اتهام فقط ، وفي 2011 وصل عدد الشكاوى إلى 252 ، وتم تقديم لائحة اتهام واحدة . هذا الوضع لم يتغير على امتداد السنين ، فحسب يش دين كذلك تكشف معطيات 2019-2020 أن هنالك احتمالا ضئيلا جداً بأن يرى فلسطيني شكوى قام بتقديمها ضد جندي سبب له الأذى تصل لمحاكمة الجندي : فقط 2% من جميع الشكاوى التي قدمها فلسطينيون في الأعوام 2019-2020 وصلت لمحاكمة المشتبه بهم .
خلاصة
هذه شواهد لا تخطؤها عين بأن نشاطات اسرائيل الاستيطانية تسهم بشكل فعال في بناء نظام فصل عنصري في الضفة الغربية بما فيها القدس . والى جانب هذه الشواهد نشير الى شهادات دولية كثيرة تفيد ان اسرائيل تمارس سياسة فصل وتمييز عنصري ضد الفلسطينيين . جيمي كارتر ، الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية ، مؤلف كتاب فلسطين سلام وليس تفرقة عنصرية، جاهر بموقفه بأن هناك سياسة تفرقة عنصرية موجهة ضد الفلسطينيين. وبأنه في بعض الحالات فإن هذه التفرقة أقسى من المعاملة ضد السود في جنوب أفريقيا. الأسقف ، الذي كان متمردا على نظام الفصل العنصري البائد في جنوب افريقيا ، ديسموند توتو ، قارن في سلسلة من المواقف الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية بنظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا ، وطالب المجتمع الدولي نزع الدعم عن إسرائيل حتى تنسحب من الأراضي المحتلة. وحتى زبيغنيو بريجينسكي ، مستشار الأمن القومي الأسبق في الولايات المتحدة ، ذهب في الاتجاه نفسه عندما اكد بـأنه في ظل غياب قانون خاص بالصراع العربي الإسرائيلي فإن هذا سيؤدي إلى تكوين حالة مشابهة لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. أما السيدة ميريد ماغواير، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، فقد احتجزتها شرطة الحدود عام 2010 في مطار بن غوريون ومنعتها من دخول البلاد لمجرد مجاهرتها بأن اسرائيل تمارس ضد الفلسطينيين سياسة فصل عنصري ، تماما كما فعلت مع البروفيسور نعوم تشومسكي في معبر الكرامة الحدودي حيث حققت معه ومنعته للسبب ذاته من دخول اسرائيل
نضيف الى كل ذلك تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، في الخامس عشر من مارس /آذار لعام 2017 ، الذي شارك في إعداده الخبير في القانوني الدولي ريتشارد فولك وكان سببا في عاصفة افتعلتها كل من اسرائيل والإدارة الاميركية ودول غربية اخرى في الأمم المتحدة ، ودفعت في إثرها الدكتورة ريما خلف الأمينة التنفيذية للإسكوا الى الاستقالة ، بفعل الضغوط بتقليص ميزانية الإسكوا، من أجل سحب التقرير عن موقع المنظمة الدولية
من المفيد هنا التذكير بأن الصهيونية لم تكن وهي ليست كذلك في أيامنا هذه تعبيرا عن ردة فعل على معاداة السامية . فقد ظهرت الصهيونية تاريخيا في سياقين تاريخيين . فهي في سياقها الاول رد فعل في اتجاه معاكس لحركة التنوير اليهودي ، التي شقت طريقها في اوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأنتجت أدبا يهوديا متطورا باللغة اليديشية تحديدا يدعو الجماهير اليهودية الى التحرر من سلطة الحاخامات ومن الأساطير والخرافات والى الاندماج في مججتمعاتهم كمواطنين شأنهم شأن غيرهم من المواطنين في مجتمعاتهم . ولم يكن التوجه نحو الاندماج يروق للحركة الصهيونية ، التي وقفت سدا منيعا في وجه حركة التنوير تلك . أما السياق التاريخي الثاني فعبر عن نفسه بالتماهي مع الحركات القومية في البلدان الرأسمالية الناشئة والسير في ركابها كوكيل ثانوي للاستعمار ، كما كان حال هيرتزل وجابوتنسكي ، حتى لو كان ثمن ذلك التساوق مع المعادين للسامية كما طان حال هيرتسل وجابوتنسكي ، مكملة بذلك دور سلطة الحاخامات وحواملها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كوكيل لمصالح النبلاء والبارونات في القرون الوسطى وخاصة في مناطق ما كان يعرف بالاستيطان اليهودي في بولندا وروسيا واوكرانيا ورومانيا وغيرها من الدول في اوروبا الشرقية . فقد ركب كل من هيرتسل وجابوتنسكي موجة العداء للسامية كمنصة انطلاق نحو تحقيق الهدف ولم يجدا حرجا على الاطلاق لتحقيق غايتهم بطرق أبواب المعادين للسامية ، فتوجه الأول للبحث عن حل للمسألة اليهودية من خلال التحالف مع الوزير اللاسامي فاتيسلاف فون بليهفا ، الذي ارتكب مذبحة كشينيف ضد اليهود عندما كان وزيرا للداخلية في حكومة القيصر نيقولا الثاني ، فيما توجه الثاني ، أي جابوتنسكي ، لعقد اتفاق مع سيمون بتليورا ، الزعيم الاوكراني ، الذي ارتكبت قواته مذبحة راح ضحيتها مئة ألف يهودي عام 1918 .
أما أكثر النماذج المثيرة للصدمة فكان احتفاء قادة مرموقين في الحركة الصهيونية بانتصار النازية على الليبرالية وفق تعبيرهم ، كما كان حال الدكتور يواكيم برينس ، الحاخام اليهودي ، الذي صعد في صفوف المؤتمر اليهودي العالمي ليصبح نائبا للرئيس والذي كان مقربا من جولدا مائير وأصبح أحد القادة البارزين في الحركة الصهيونية العالمية . فقد انساق الدكتور يواخيم برينس مع موجة التفوق العرقي على الطريقة النازية وألف كتابا باللغة الألمانية بعنوان ( نحن اليهود ) قال فيه : سوف يتضح ما تعنيه الثورة الألمانية للأمة الألمانية ( ثورة أدولف هتلر ) في النهاية لأولئك الذين صنعوها ورسموا صورتها . لقد فقدت الليبرالية حظوظها ، الليبرالية تلك الصيغة للحياة السياسية التي ساعدت على اندماج اليهود ، هذه الليبرالية تتعرض الآن للهزيمة .
وانطلاقا من هذا التقدير بأن الصهيونية في جوهرها حركة رجعية وعنصرية منذ بدايتها ومن كل الشواهد ومن الشهادات الصادرة عن شخصيات ومنظمات دولية ذات صلة ، معتبرة ومرموقة على الصعيد العالمي ، تتضح الصورة وتصبح مهمة ملاحقة دولة اسرائيل ومساءلتها مطروحة على جدول الأعمال ، خاصة في ظل التحولات الجارية في اسرائيل وصعود الصهيونية الدينية وتحولها كحركة فاشية الى قوة مقررة في الكنيست والحكومة وتحول خطابها الى جزء من الخطاب الرسمي في اسرائيل بأهمية إعادة الاعتبار لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379 لعام 1975 حول الصهيونية والذي أكد في جملة أمور إدانته للتحالف الآثم بين العنصرية في افريقيا الجنوبية والصهيونية ، وبأن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري وضرورة إحياء “لجنة الأبارتهايد”، في الأمم المتحدة على مستوى الجمعية العمومية ، التي مارست دوراً فاعلاً في جنوب أفريقيا، وتم الغاؤها بعد سقوط الأبارتهايد في ذلك البلد عام 1994.
والى جانب ذلك على الجانب الفلسطيني أن يبدأ العمل ، كما كان الحال في نضال شعب جنوب اقريقيا ، لتشكيل تحالف دولي على المستويين الرسمي والأهلي ، للدفع في اتجاه وضع حد لتهرب المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان من مسؤولياته في فتح تحقيق جنائي بجرائم الحرب وجرائم التمييز العنصري ، التي ترتكبها اسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 ، خاصة بعد أن أكدت الغرفة الابتدائية في المحكمة في آذار من العام الماضي أن الضفة الغربية ، بما فيها مدينة القدس المحتلة وقطاع غزة تقع ضمن ولايتها القضائية .
إن تشكيل مثل هذا التحللف الدولي أمر ممكن انطلاقا من عديد التقارير التي صدرت عن منظمات دولية، تصف دولة اسرائيل بدولة الفصل العنصري (الأبارتهايد)، واستنادا لنفس اللوائح القانونية الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات دولية تعنى بحقوق الانسان ، في سياق محاربة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا .
كما إن العمل على إعادة إحياء ” لجنة الأبارتهايد “، في الأمم المتحدة على مستوى الجمعية العمومية والعمل كذلك على تشكيل رأي عام عالمي ضد الممارسات الإسرائيلية استنادا الى تلك التقارير والضغط في اتجاه العودة الى المسار السياسي القانوني في محاربة نظام الفصل العنصري البائد في جنوب افريقيا ، لمحاسبة دولة الاحنلال الاسرائيلي على جرائمها اولا وللتصدي للمحاولات الاسرائيلية والاميركية ، التي تجرم حملة مقاطعة اسرائيل وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عليها ( BDS ) ثانيا والتصدي للمحاولات ، التي تبريء دولة اسرائيل من الاتهامات الموجهة لها ولمحاولات الضغط على المنظمات التي صدرت عنها تلك التقارير ، في سبيل سحبها ، عبر التهديد بتقليص ميزانيات الأمم المتحدة، وتوجيه تهم معاداة السامية لها ثالثا
وفي هذا السياق لا يمكن إنكار دور حملة المقاطعة لنظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا على مدى ثلاثة عقود ، والتي شاركت فيها الجامعات والكنائس والنقابات ومنظمات حقوق انسان ودفعت الأوروبيين ولاحقا الأميركيين للضغط على متاجرهم للتوقف عن بيع المنتجات المصنعة في جنوب أفريقيا، وأجبرت بنوكا اوروبية وبريطانية على إغلاق فروعها في جنوب أفريقيا وجامعات على فك علاقتها مع نظيرتها في جنوب افريقيا . إن الاسترشاد بتلك الحملة من الجانب الفلسطيني أمر في غاية الأهمية ونلحظ في السنوات الأخيرة ما يبشر بتطور واعد على هذا المستوى بالنسبة لحملة مقاطعة المنتجات الاسرائيلية وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات
ليس هذا فحسب ، فالاستيطان ونقل دولة الاحتلال مواطنيها الى المناطق الخاضعة لاحتلالها في سياق سياسة إحلال وتهجير وتطهير عرقي هو وفقا للمادة الثامنة من نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية ، جريمة حرب متكاملة الاركان ، تتطلب من المدعي العام الجديد للمحكمة الجنائية الدولية ، كريم خان ، التخلي عن بلادته وارتهانه لسياسة دولة الاحتلال والادارة الاميركية وغيرها من الدول الاستعمارية الغربية والبدء بتحقيق جنائي في جرائم الحرب الاسرائيلية خاصة بعد ان جاء قرار الغرفة الابتدائية في المحكمة يؤكد ولايتها على الاراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 .
نعلم جيدا هنا أن اسرائيل ومعها الحركة الصهيونية العالمية ومنظمات اللوبي الصهيوني العاملة في الولايات المتحدة الاميركية وعديد الدول الغربية سوف تواجه هذا التوجه بتهمة معاداة السامية ، التي تحولت الى صنم عبادة جديد لقادة اسرائيل والحركة الصهيونية ، غير اننا نرى أن الوقت قد حان لتحطيم هذا الصنم من بوابة الضغط لتقديم اسرائيل على حقيقتها كدولة احتلال كولونيالي استيطاني ودولة تمييز عنصري وتطهير عرقي .