جمال زقوت
الانتفاضة الفلسطينية الكبرى”1987-1993”، والتي تمر هذه الأيام ذكرى اندلاعها الخامسة والثلاثين، تستحضر معها، في هذه اللحظة التاريخية بالذات، مجموعة من المقاربات والتناقضات الجوهرية، التي تكشف بمجملها طبيعة التحولات والانتكاسات التي شهدتها الحركة الوطنية الفلسطينية على مدار الاعوام الخمس والثلاثين الماضية، وحجم التحديات الماثلة أمامها لاستعادة المسار التحرري الذي شكلت الانتفاضة ذروته، ودفعت به قدماً نحو امكانية تحقيقه الفعلي.
فبينما مثلت الانتفاضة الابن الشرعي لمجمل النضال الفلسطيني لعشرات السنين تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ومشروعها التحرري، نجد أن معظم الهبّات والانتفاضات الصغرى التي اندلعت في العقد الأخير كانت في أحد سماتها الأساسية تمرداً على تخلى فصائل الحركة الوطنية عن دورها في مقاومة الاحتلال، و ارتهان قواها الاساسية لحالة الانقسام ومسار تسوية بات واضحاً أن اليمين الاسرائيلي قد نجح في دفنها، وباتت بعيدة المنال، والأهم أنه أصبح من المستحيل تحقيق أي من الاهداف الوطنية من خلالها طالما بقي الحال على ما هو عليه وميزان القوى مختل لصالح حكومة الاحتلال، سيما في ظل ما تشهده الحركة الوطنية من انقسام ، واستمرار انحراف بوصلتها بعيداً عن مواجهة مخططات الاحتلال، والتي تشمل مخططات التهجير والترانسفير، خاصة أن قوى الفاشية “تلامذة كهانا وحركة كاخ ” صارت مكوناً أساسياً من مقود نظامها السياسي الرسمي، في وقت أن اسرائيل نفسها سبق و اعتبرتها حركة ارهابية محظورة .
نجحت الانتفاضة الكبرى، التي اندلعت شرارتها الأولى في مخيم جباليا رداً على مقتل العمال الأربعة شمال ” حاجز ابرز”، في تحييد قوة جيش الاحتلال الذي كان يُعتبر من أقوى خمس جيوش في العالم، وتحويله إلى مجرد شرطة قمعية فاشلة تطارد شبان المخيمات والقرى والبلدات وأحياء المدن الفقيرة في الضفة والقطاع المحتلين.
سمات الانتفاضة وعناصر قوتها
كان ذلك بفعل الانخراط الشعبي الشامل في فعاليات الانتفاضة وأنشطتها المختلفة التي مكنت الثورة من الاقدام على تجميد الكفاح المسلح في دورة المجلس المركزي التي عقدت في بغداد بداية آب 1988، لصالح الانتفاضة الشعبية الشاملة، التي شكلت مرحلة متقدمة لمضمون الثورة الشعبية بطابعها الديمقراطي العريض، بعد أن امتلكت كل عناصر الانفجار بفعل نضوج العوامل الذاتية من خلال تراكم انجازات سنوات طويلة من الكفاح ، بالإضافة إلى نجاح الأطراف الرئيسية في الحركة الوطنية حينه من بناء شبكات جماهيرية عريضة ومؤسسات أهلية خدماتية تنتشر في سائر أنحاء الارض المحتلة، تستجيب لمعظم احتياجات الشعب الفلسطيني، بما مكّنه من الاعلان المتدرج لبعض أشكال العصيان المدني، مثل مقاطعة البضائع الاسرائيلية التي لها بديل محلي، و رفض دفع الضرائب، وادارة مسؤولة للإضرابات التجارية والامتناع الجزئي عن العمل في سوق العمل في اسرائيل، وصولاً لحالات من العصيان المدني الشامل في بعض المناطق كما حدث في مدينة بيت ساحور، التي اعتبرت نموذجاً لمدى تطور القدرة الكفاحية والبنائية للانتفاضة على حد سواء . ذلك كله دون المغامرة بإرهاق قدرة الناس على الصمود، وبما يُمكِّنها من استمرار حياتها، وانخراطها المنظم في الانتفاضة التي بات واضحاً أنها طويلة الأمد، وليس مجرد موجة عابرة، حيث كان عليها تحدي سلطة الاحتلال، والاجابة على سؤال السلطة لمن؟ هل هي للاحتلال وجيشه المدجج وادارته المدنية، أم للقيادة الوطنية الموحدة ولجانها الشعبية التي تشكلت في ارجاء البلاد استجابة لاحتياجات الناس وتوفير متطلبات تعزيز قدرتها على الصمود، ومقاومتها لمخططات الاحتلال وسياساته القمعية؟
القيادة الموحدة: هيئة أركان وحكومة شعبية
لم يكن لهذه العملية الوطنية والكفاحية أن تتقدم بهذا الاتجاه، دون استعادة الوحدة الوطنية التي تجسدت في التئام المجلس الوطني التوحيدي في الجزائر ” نيسان 1987”، والمبادرة انطلاقاً من هذه الوحدة، لتأسيس القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، ليس فقط كمجرد قيادة ميدانية لإدارة فعاليات وانشطة الانتفاضة الشعبية، بل هيئة أركان و جزءاً لا يتجزأ من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا وقائدة نضاله الوطني، وعملت أيضاً بمثابة حكومة شعبية يقع عليها مسؤولية الاستجابة الخلَّاقة لاحتياجات الناس في اطار التوزيع العادل لأعباء الاحتلال، والاستخدام الأمثل للموارد والامكانيات الوطنية والاهلية” الاقتصاد المنزلي، التعليم الشعبي، التضامن الاجتماعي مع اهالي الشهداء والأسرى، الخدمات الصحية الشعبية، الاغاثة التموينية، وغيرها من المهام”، و ابداع اشكال كفاحية تساهم في تعزيز وحدة النسيج الاجتماعي والتضامن الأهلي بين فئاته المختلفة، الأمر الذي مكَّن قيادة الانتفاضة ولجانها من امتلاك الثقة الشعبية التي وفرت لها حاضنة عريضة لعبت دوراً حاسماً في استمرار وديمومة الانتفاضة وانشطتها الكفاحية والاجتماعية على حد سواء .
الوحدة الوطنية والثقة الشعبية شرطان للانتفاضة الشاملة
كان ولا يزال من الواضح و من التجربة الملموسة للكفاح الوطني التي تقدمها لنا استخلاصات دروس الانتفاضة الكبرى، أن الوحدة الوطنية وامتلاك ثقة الحاضنة الشعبية ليسا مجرد عناصر أساسية لاندلاع انتفاضة شاملة، بل دونهما وقبل استعادتهما في مجرى الكفاح الطويل والمعقد، فمن الصعب، وربما من المستحيل أن تتمكن الهبات الشعبية أو الموجات الانتفاضية، أو عمليات المقاومة شعبية كانت أم مسلحة، بأن تتجاوز كونها ردود أفعال على القمع الاسرائيلي غير المسبوق، و أن تكون قادرة على التحول إلى انتفاضة شاملة، فتغييب هذين الشرطين يجعل من الدعوات المتكررة للمقاومة الشعبية بما في ذلك دعوات الرئيس عباس نفسه في بعض الاحيان، مجرد دعوات فارغة وبلا مضمون؛ ما لم يتم انجاز هذين الشرطين، بل إن مدى مصداقية هذه الدعوات وجدِّيتها تتحدد على ضوء ذلك، حيث دون تحقيقهما لا يمكن استعادة أي قدر من الثقة الشعبية بالقيادة السياسية المنقسمة، والتي ما زالت لا تُلقي بالاً لهموم وأوجاع الناس ومطالبها، خاصة تلك المتصلة بأثر الانقسام على جوانب حياتها المعيشية المختلفة، واستمرار رهان هذه القيادة على التسوية السياسية دون غيرها، ودون بذل أي جهد لتعزيز القدرة على الصمود الشعبي، وتغيير ميزان القوى . فالدعوة للمقاومة الشعبية بما في ذلك السلمية عملية مترابطة ومعقدة أكثر بكثير من المقاومة المسلحة ، وهي تحتاج أولاً لمراجعة المسار السياسي برمته، ونبذ الفئوية والاقصاء والاستحواذ على الموارد والهيمنة على القرار، كما تحتاج لاستحقاقات بنيوية وبرنامجية لتصويب العلاقة بين المنظمة والسلطة، وبينهما مع سائر المواطنين الذين من المفترض أن يكونوا على رأس سلم أولويات أي قيادة، بالإضافة لمتطلبات التكامل والربط الجدي والمحكم بين مهام التحرر الوطني بقيادة منظمة التحرير، التي يجب أن تتسع للجميع دون استثناء، وبين مهام السلطة وحكومة الوحدة الوطنية المطلوب المسارعة لإنشائها دون شروط. إن جوهر مهمة مثل هكذا حكومة تتلخص في ارساء مبادئ العدالة والتضامن والتكافل الاجتماعي، ومعهما تعزيز مقومات الصمود التي سبق للانتفاضة الكبرى أن فتحت الطريق أمامها، حيث سجلت في حينه ميزة فريدة، بأنها لم تكن فقط ثورة ضد الاحتلال، بل وأيضاً ثورة ذات طابع اجتماعي شامل، أحدثت تغييراً عميقاً في طبيعة البنى والعلاقات الاجتماعية والقوى المحركة للنضال الوطني برمته.
“أوسلو” دفرسوار اسرائيلي لاحتواء منجزات الانتفاضة
لقد ثبت بالملموس أن انخراط حكومة الاحتلال في مسار اوسلو، لم يكن سوى مجرد “دفرسوار” لتقويض واحتواء التحولات التي حققتها الانتفاضة في بنية وطابع ومضمون الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، وتفكيك الثقة الشعبية بها، وبما ولدته من حاضنة عريضة لمجمل المشروع الوطني التحرري، حيث غلَّبت ،أي تلك الحاضنة، دوماً التناقض الرئيسي مع الاحتلال على كل التباينات والخلافات الأخرى، التي طالما ولايزال الاحتلال يعمل على تغذيتها وتوسيع نطاقها، كما يحدث إزاء مجريات كارثة الانقسام المستمر، لوأد المشروع الوطني، وتبديد كل ما كانت قد حققته تلك الانتفاضة على الصعيدين الدولي والاقليمي، وداخل المجتمع الاسرائيلي نفسه، كما يتضح اليوم بانحدار غير مسبوق لقطاعات مهمة منه نحو الفاشية الدينية، وليس فقط اليمين المتطرف .
الانتفاضة الكبرى لم تكن مجرد مرحلة عابرة في تاريخ النضال الوطني، فدروسها ما زالت حية وماثلة، ويمكن، بل يجب استعادتها والاستفادة من عِبَرها. ولعله ما زال هناك حيز، وإن كان ضيقاً جداً، بل ويكاد يتلاشى، أمام قوى الانقسام المهيمنة على المشهد، بأن تعود لحاضنة الانتفاضة الشعبية، والاستجابة لاحتياجات ومطالب الناس بإنهاء الانقسام، وفتح مسار جدي في العملية السياسية الوطنية ، وبما يُفضي لإعادة بناء مؤسسات الوطنية الجامعة ، كي تتولى الادارة الموحدة للصراع، وتوفر مقومات الصمود، واسس العدالة والتضامن الشعبي بين مختلف المكونات والفئات السياسية والشعبية ، كما تتولي الاعداد لانتخابات سياسية عامة شاملة، تفضى لتعزيز الوحدة الوطنية واستعادة المسار الديمقراطي كمسارين متلازمين لكفاحنا الوطني.
دون ذلك، فلن يكون من خيار أم شعبنا ومجمل المجموعات والحراكات الشعبية والشبابية والنسوية والطلابية والعمالية، وغيرها من المبادرات والاجتهادات على اختلاف أشكالها ومسمياتها، سوى بلورة آليات جامعة لتطوير صيغ التنسيق والعمل المشترك فيما بينها بروح وطنية تفتح الآفاق لأوسع انخراط شعبي في انتفاضة شعبية سلمية، والتي باتت عوامل انفجارها الموضوعية أكثر من ناضجة، بل ولا يمكن مقارنتها بتلك التي فجرت انتفاضة 1987، لجهة أشكال القتل والعدوان ضد شعبنا وموارده ومصادر رزقه ومستقبله الوطني، ولا ينقص تحققها سوى انجاز وحدة الميدان، كي تتقدم نحو عصيان وطني شامل. بكلمات أخرى، إما أن تستعيد الحركة الوطنية عافيتها ودورها وتعيد بناء أطرها الوطنية الموحدة ومؤسساتها الجامعة، وبما يشمل هذه الحراكات الاجتماعية سيما الشبابية والنسوية وأبناء الريف والمخيمات في الوطن والشتات، أو لا بديل أمام هذه الأطر ذاتها سوى التقدم بشجاعة نحو بناء حركة وطنية جديدة، والنهوض بدورها الكفاحي. وهذا هو الدرس الأهم والتاريخي للانتفاضة الكبرى، والمتمثل بقدرة الشعب على استعادة زمام المبادرة لتصويب المسار ومعالجة أية انحرافات، واستنهاض كامل الطاقات الوطنية لتحقيق الأهداف العليا لشعبنا وفي مقدمتها حق العودة والحق في تقرير المصير.